الاثنين، 16 أبريل 2012

أم الدنيا فقدت زعامتها ولا عزاء للخونة

جمال حمدان‏:‏ الطغيان هو المعزوفة الحزينة في تاريخنا
‏..‏ ومعظم سلبياتنا مرجعها القهر
أفرط في غرامها فخاصمته‏,‏ اقترب من روحها فتمنعت عليه وهجرته‏,‏ وسطعت أنوار‏'‏ عبقريته‏'‏ فتنكرت له وصدته‏...‏غني لها في‏4000‏ صفحة أروع قصيدة حب‏,‏

جمال حمدان‏
عنوانها'شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان', عمل استثنائي معجز, حنون وجارح,لكنه لم يشفع له أمام نهاية مأساوية, لا تخلو من سخرية مريرة, كأبطال الأساطير الإغريقية, والفاعل المعلن' أنبوبة بوتاجاز'...
ذات يوم اضطر' سقراط' لشرب كأس مسمومة, واحتجب' نيتشه' في بيت مجهول, واعتزل' جمال حمدان' في داره حتي حوطته ألسنة النار في17 إبريل1993 م, لكن الأحلام العظيمة حتي في قلب اللهيب لا تتفحم ولا تتحول إلي رماد كما قال الأستاذ هيكل- وإنما تنهض بمعجزة من معجزات البعث من وسط الحريق.
من وراء خيمة الظلام التي تربكنا اليوم يأتي صوت الدكتور جمال حمدان, يعبر بين العصور كأنه يسير بين غرف منزله الضيقة, كاشفا عن الوجه الحقيقي لمصر' المحروسة', محذرا من أخطار محدقة, ومنبها إلي فرص واعدة, قارئا تفاصيل المشهد المقيم الآن, مستخدما سطوح وجدانه مرآة تلتقط وتكثف رؤي فكرية واستراتيجية, تقرع الأجراس لروح مصر الوثابة علي مر الدهور, لكن مسحة الحزن في قسمات وجهه ونبرات صوته تحذر بإلحاح من أن الزمن يسير إلي المستقبل' بظهره' إذا غابت الحكمة وتواري الرشد عن واقعنا, علي هذا النحو الذي نحياه.
ليس هينا أن تكتب عن' أم الدنيا' مهد الحضارة وفجر الضمير التي ينظر أهلها إلي بقية الدنيا من فوق' الهرم الأكبر' عن حق أو بدونه- فمن يكتب عنها عليه أن يتجاوز الفخاخ وأن يسير بحذر ليحاول ألا تقع أقدامه علي لغم أرضي مضاد للأفراد أو المدرعات لماذا..' لأنها مصر ياسيدي' هكذا أجاب يوما باندهاش سحري الكاتب الفرنسي جون كوكتو- ومن يقرأ المقدمة التي كتبها جمال حمدان لموسوعته العبقرية' شخصية مصر' فسيشعر بتلك المرارة الحارقة تنتقل إلي حلقه, كما عاناها ابنها البار الدكتور' جمال حمدان'(4 فبراير1928-17 ابريل1993) الذي لم يكن مجرد أستاذ للجغرافيا في جامعة القاهرة, بل كان مفكرا استراتيجيا وعالما أفني عمره كله باحثا عن ينابيع العبقرية في الشخصية المصرية ومقوماتها, مكرسا حياته العلمية في بعدين رئيسيين: مصر وجغرافيتها ونيلها وثورتها ثم عروبتها, وجغرافية العالم العربي والإسلامي ومشكلاتهما, ولسوف يقتصر هذا العرض علي الهم المصري باعتباره الأكثر إلحاحا الآن.
عبقرية مبكرة
تفتحت عبقريته مبكرا فحصل علي الدكتوراه من بريطانيا عام1953, وهو في الخامسة والعشرين من عمره, وبعد6 سنوات نال جائزة الدولة التشجيعية, و في الخامسة و الثلاثين قدم استقالته من الجامعة احتجاجا علي الظلم الذي حاق به عندما رقي معه أحد زملائه لمنصب' الأستاذية',دون سند من علم أو كفاءة اللهم إلا أنه ممن يجيدون النفاق والتزلف لأصحاب الشأن والسلطان, فما كان منه إلا أن اعتزل أهل هذا الزمن الذي يرفع عديمي القيمة وأنصاف الموهوبين ويزري بالعباقرة وذوي الفكر, لأن إخلاصهم الوحيد للمعرفة الحقة والضمير الوطني لا للكراسي ومن يجلسون عليها.
لذلك هاجم حمدان مرارا ما يسمي بسماحة المجتمع التي تسمح للرجل المتوسط القدرات فقط بأن يصل, و تضيق بالرجل الممتاز, و يصبح شعارها هو' شرط النجاح في مصر أن تكون اتباعيا لا ابتداعيا'..واعتزل الناس, لإيمانه بمقولة سارتر' الجحيم هم الآخرون', ولكنه لم يعتزل الحياة, فأغلق عليه باب بيته المتواضع, حيث الدولاب المتهالك, و السرير السفري, و الترابيزة المختفية تحت ركام الكتب, و بوتاجاز المصانع الحربية,و الراديو الترانزيستور وسيلته الوحيدة للاتصال بالعالم الخارجي, كان يحمل ملامح صارمة, و شخصية تفتقد اللباقة الاجتماعية, و سلوكا كحد السيف, لا يناور ولا يراوغ... كانت هذه هي مفرداته المعيشية, أما مفرداته الفكرية فقد كانت باتساع العالم كله, لذلك وصفه الدكتور خالد منتصر بأنه' إنسان بلا حدود جغرافية واضحة, فيه من صفات الوادي مداه اللانهائي, وفيه من الغابة أحراشها المتشابكة المعقدة,وفيه من النيل فيضانه,و فيه من الجبل شممه و إباؤه, يحنو كما يحنو النيل علي أبنائه بالخير, و يثور كما يثور النيل حافرا مجراه نحو الغاية والمصب,وجهه الجرانيتي لا تستطيع أن تخطئ مصريته, بلونه الأسمر المتشرب بطمي النيل و أنفه البارز وعينيه المكحلتين وشعره المجعد ووجنتيه المتحديتين وكأنهما نحتتا بإزميل فنان فرعوني قديم, لم تستطع نظارته السميكة أن تخدعنا وتخفي هذه الملامح المصرية, بل علي العكس هي قد وضعتها في البرواز فبدت وكأنها ملامح فلاح مصر الفصيح الذي صناعته الخلود و قدره أن يظل مظلوما إلي الأبد'..
قارورة عطر


استطاع الدكتور جمال حمدان- في أكثر من29 كتابا و79 بحثا- استقصاء موضوعات وقضايا استراتيجية بالغة الأهمية, وحول الجغرافيا من علم إلي فن, وقطرها في قارورة عطر, ألقاها في حجر الوطن يتعطر بها عند اللزوم, و يتذكر هويته أثناء المواجهات المصيرية, فقد قدم في رائعته,' شخصية مصر' التي خطها عقب نكسة67, برهانا ساطعا علي أن' الجغرافيا هي كائن من لحم و دم يتنفس و يثور و يغضب, نعرف منها تضاريس الروح و ليس تضاريس الأرض, و نشم رائحة البشر لا رائحة حبر الخرائط, و نلمس فيها ملامح الحياة لأموات الحفريات,و نسمع منها موسيقي الكون المنطلق, لا صمت السكون الأخرس, فقد خلع جمال حمدان في هذا الكتاب ثوب الأكاديمي المتخصص, و ارتدي عباءة الفيلسوف و جلباب الفلاح و أفرول العامل,وقلل من جفاف الإحصائيات لصالح اللغة الأدبية لدرجة يحس معها القارئ في بعض الأحيان أنه يقرأ شعرا, أو يشاهد لوحة, و هذا ليس بمستغرب علي هذا العبقري الذي كان يجيد الغناء الشرقي و الأوبرالي, و يمارس الرسم و الخط ويصر علي تصميم أغلفة كتبه بنفسه'.فالجغرافيا عنده:' علم بمادتها, وفن بمعالجتها, وفلسفة بنظراتها.. وهذا الرؤية ثلاثية الأبعاد في التعاطي مع الظاهرة الجغرافية تنقل عالم الجغرافيا من مرحلة المعرفة إلي مرحلة التفكير, ومن جغرافية الحقائق المرصوصة إلي جغرافية الأفكار الرفيعة', وأن' الجغرافيا هي الجذر الجبري للتاريخ إنها تاريخ توقف, بمثل ما أن التاريخ جغرافيا متحركة',ويظهر ذلك في نظرته المتوازنة للعلاقة بين الإنسان المصري والطبيعة والنيل علي وجه الخصوص, وكيف أدي ذلك في النهاية إلي صياغة الحضارة المصرية علي الوجهين المادي والروحي.
معادلة القوة المصرية
وكان اكتشافه الأول معادلة قوة مصر التي تتلخص في الموضع والموقع,الـsite والـsituation وبينهما في مصر فرق كبير, فالموضع الذي هو خصائص و بيئة و موارد داخلية لا يتناسب ولا يتكافأ مع خطورة الموقع, و حين يزدهر الموضع تتم حماية الموقع, و هذا مدخل لتفسير تاريخ مصر عبر القرون المتتالية:' إنها بجسمها النهري قوة بر, ولكنها بسواحلها قوة بحر, تضع بذلك قدما في الأرض وقدما في الماء, وهي بجسمها النحيل تبدو مخلوقا أقل من قوي, لكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأسا أكثر من ضخم, وهي بموقعها...صارت مجمعا لعوالم شتي, فهي قلب العالم العربي, وواسطة العالم الإسلامي, وحجر الزاوية في العالم الإفريقي... إنها تجمع بين أطراف متعددة تؤكد فيها( ملكة الحد الأوسط), وتجعلها( سيدة الحلول الوسطي), تجعلها أمة وسطا بكل معني الكلمة, بكل معني الوسط الذهبي, لكن ليس أمة نصفا, وسط في الموقع والدور الحضاري والتاريخي, في الموارد والطاقة, في السياسة والحرب, في النظرة والتفكير..إلخ, ولعل في هذه الموهبة الطبيعية سر بقائها وحيويتها علي العصور ورغمها... إنها( فلتة جغرافية) لا تتكرر في أي ركن من أركان العالم... تلك هي حقيقة عبقريتها الإقليمية'.
وتوقف جمال حمدان طويلا عند تجانس مصر ووحدتها التي أدت بالتالي إلي مركزيتها, و كانت هذه المركزية هي سر أمراض مصر المزمنة, فالطابع النهري للمجتمع المصري فرض الطغيان, وفرض الخضوع والاستكانة, فالماء لابد له من حاكم ينظم حركته ويضمن توزيعه, ولابد للفلاح أن يخضع له ويهبه التبعية وإلا فقد الري والحياة..'فالطغيان هو المعزوفة الحزينة للتاريخ المصري, مما خنق كل مبادرة, وتاريخيا يعتبر الحاكم إلها حتي يسقط. وتاريخيا يضع نفسه فوق النقد حتي يرحل, وهو التاريخ والجغرافيا حتي يأتي غيره..ومازلنا بعيدين عن التعليم الحقيقي الذي يجعل الشعب كله خلية متحركة, ولا يرغب أحد رغبة حقيقية في أن يتعلم الشعب, فعندئذ سيعرف حقوقه ويتعلم كيف يطالب بها, وكيف يحصل عليها', و يسهب: إن معظم سلبيات و عيوب الشخصية المصرية إنما يعود أساسا إلي القهر السياسي الذي تعرضت له ببشاعة وشناعة طوال التاريخ.
قدر الزعامة وتبدل الأحوال
وبالرغم من ذلك فإنها لا تملك ترف الانكفاء علي ذاتها, إذ إنها محكوم عليها بالعروبة والزعامة أيضا, يقول حمدان:' مصر بالحجم و الموقع هي الرأس و القلب و ضابط الإيقاع إنها في العالم العربي كالقاهرة في مصر نفسها..إنها مرآة العالم العربي لا ظله, ومرآة مكبرة, فيها يستطيع أن يري مستقبله'
لكن جمال حمدان بدا أكثر تشاؤما, بعد ذلك, في' أوراقه الخاصة' التي نشرها شقيقه عبدالحميد بعد وفاته, والتي كتب فيها صارخا حانقا:'إن مصر فقدت زعامتها في العالم العربي بسبب اتفاقية كامب ديفيد, وليس لها وريث' لأن وراثة مصر كانت أكبر من أي دولة عربية أخري منافسة', وكانت النتيجة هي تقسيم وراثة مصر, فانتقل الثقل الاقتصادي إلي الخليج والسياسي إلي العراق الذي انتهي دوره منذ حرب الخليج1991', وإنها تتحول' لأول مرة من تعبير جغرافي إلي تعبير تاريخي', بعد أن ضاقت أمامها الخيارات.. ليس بين السييء والأسوأ وإنما بين الأسوأ والأكثر سوءا.. ويصف بقاءها واستمرارها بأنه نوع من القصور الذاتي, ويذهب إلي أن مصر' تهرب من المستقبل الأسود. بل من الحاضر البشع إلي الماضي التليد... لأول مرة في التاريخ يتغير مكان مصر في العالم ومكانتها إلي الأسفل, فتجد نفسها لأول مرة في وضع من العالم لم يسبق من قبل, وهو أنها كيان منكمش في عالم متمدد, كيان متقلص في عالم متوسع', لكنه يستبعد ما يصفه بمشاريع إسرائيل والصهيونية والغرب لتفتيت مصر إلي دويلات, ويعتبر هذا نوعا من السفه والجنون,' لأن مصر أقدم وأعرق دولة في الجغرافيا السياسية للعالم غير قابلة للقسمة علي اثنين' والفرق بين مصر وبعض الدول المحيطة أن الأخيرة أصبح عندها فائض قوة, أما مصر فلديها' فائض أزمة تغرق بها داخل حدودها', مضيفا أنه بقيام إسرائيل عام1948 فقدت مصر ربع دورها التاريخي ثم فقدت نصف وزنها' بهزيمة1967 ثم فقدت بقية وزنها جميعا في كامب ديفيد... مصر الآن خشبة محنطة, مومياء سياسية كمومياواتها الفرعونية القديمة ولا عزاء للخونة'.
ويبدي حمدان رعبه من تراجع مساحة الزراعة التي تعني الحياة للبلاد, فمن غير الزراعة ستتحول مصر' الي مقبرة بحجم الدولة',لأن مصر بيئة جغرافية مرهفة وهشة لا تحتمل العبث' ولا تصلح بطبيعتها للرأسمالية المسعورة الجامحة'.
لم تكن كتابات جمال حمدان قصيدة مديح فارغة عن معشوقته مصر, إنما كانت كرة لهب تضيء أسرار أرض الكنانة ومستقبلها, الذي لا ينفصل عن الحاضر المتعين أو الأمس, والذي تبدو مفاتيحه مفقودة, ولعل في ثورة يناير فرصة أخيرة لتلافي مستقبل معتم حذر منه ودعا لتجنبه بكل الوسائل.





المصدر الاهرام


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق