الاثنين، 16 أبريل 2012

الحياة والموت في المدن السرية


أسوأ سباق في العالم الحديث والمعاصر هو سباق العشوائيات‏.‏ فهو سباق محموم نحو الانزلاق المعتم في أجواء عصور وسطي جديدة‏.‏
ليس في هذا القول مبالغة, ولاغلو في التحليل, فهذا مايحذر منه خبراء وباحثون منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين.
وقد يكفي, في هذا السياق, الإشارة الي احصائيات التعاسة والبؤس البشري التي تكشف عن الأحوال الاجتماعية لسكان العشوائيات. وهي احصائيات تضمنها تقرير للأمم المتحدة صادر في أكتوبر.2003 ويتوقع ان شخصا من كل ثلاثة أشخاص في العالم سيقطن في العشوائيات في خلال الثلاثين عاما المقبلة مالم تبادر الحكومات الي التصدي بحسم وحزم لهذه الظاهرة الخطيرة.
ولفت التقرير الدولي الانتباه إلي أن نحو940 مليون شخص( طبقا لاحصائيات2003) يعيشون في مناطق وأحياء عشوائية, وأكد ان أسوأ العشوائيات توجد في القاهرة الأسيوية.
وهنا يقول الكاتب مايك دافيس في كتابه كوكب العشوائيات الذي نشره عام.2006
ان مدينة مومباي الهندية تعد عاصمة العشوائيات في العالم.
وينقلنا هذا الكاتب, إلي احدث كتاب عن العشوائيات, وهو كتاب أصدرته اخيرا الكاتبة الصحفية الأمريكية كاترين بو وسمته ماوراء لافتة جميل إلي الأ بد: الحياة والموت والأمل في المدينة السرية ممباي وهو الكتاب الأول لكاترين, التي تعمل صحفية في نيويورك تايمز, وكانت قد فازت بجائزة بوليتزر الرفيعة عام2000 عندما كانت تعمل في صحيفة واشنطن بوست. ويحظي كتاب كاترين باهتمام كبير وتبرز أهميته من أن الكاتبة أمضت بضعة شهور في موقع دراستها وموضوع كتابها, وهو أنا وادي الحي العشوائي الذي يقع بالقرب من مطار مدينة مومباي.
وهكذا تمكنت من الاقتراب الشديد, إلي حد المعاينة نسبة اليومية, مع نماذج بشرية تعيش في هذا الحي العشوائي, خاصة جامع قمامة وأفراد عائلته وأصدقائه ومعارفه.
واختيار كاترين لعنوان كتابها ينم عن مفارقة بالغة الدلالة فقد استهلمته من لافتة ضخمة مكتوب عليها وراء الجميل الي الأبد, وتحجب هذه اللافتة عن الانظار هذا الحي العشوائي.
غير ان اللافتة الجميلة لاتحجب الحقيقة المروعة, والحياة البائسة لسكان أنا وادي وكل قاطني العشوائيات في الهند وغيرها.
وليس أدل علي ذلك من أن دراسة نشرها معهد بانوس البريطاني عام2000 عن ظاهرة العشوائيات ذكر فيها أن مايطلق عليه المنطقة المضيئة واللامعة من المدن لاتتعدي مساحتها عشرين في المائة, وهي تضم كل ماهو جميل ورائع من مبان حكومية وشوارع نظيفة, وحرس خاص, ودور الفن والمتاحف والمطاعم.
أما بقية المساحة أي نحو ثمانين في المائة فهي مناطق معتمة وعشوائية وينطبق هذا المعني تمام الانطباق علي مدن مثل سان باولو بالبرازيل وممباي بالهند.
وعند هذا الحد, قد يكون من المفيد, وحتي نقترب من تفهم الأبعاد الكارثية لظاهرة العشوائيات ان نشير إلي ان ناقوس الخطر بدأ يدق بعنف للفت الانتباه العالمي والإقليمي الي مخاطر هذه الظاهرة في المؤتمر الأول للمستوطنات البشرية الذي انعقد في مدينة فانكوفر بكندا عام.1976
وكانت أزمة المدن انذاك لم تبلغ بعد مابلغته من حدة في الوقت الحاضر.
ففي ذلك الحين كان الخبراء ينظرون الي أوضاع المدن باعتبارها مشكلة يمكن مواجهتها, والتصدي لها بإقامة مناطق جذب مضادة في المناطق الريفية, بحيث يمكن احتواء الهجرة من الريف الي المدينة غير ان الجهود التي بذلت في هذا الصدد قد منيت بالفشل.
ويعلل الخبراء هذا الفشل بأن المدن تتميز عادة باقتصاديات أكثر حيوية من اقتصاديات المناطق الريفية ولذلك فإن عقد التسعينيات من القرن العشرين شهد تحولا في الابحاث والسياسات التي اتسع نطاق تركيزها علي قضية الإدارة الرشيدة للمدن.
وكان محور هذا التركيز الجديد يتمثل في العلاقة بين الحكومة والمواطنين, وخاصة المهمشين منهم وساد انذاك اجماع عالمي يؤكد ان الإدارة رشيدة للمدن يستهدف القضاء علي الفقر عبر تحقيق التنمية المستدامة.
غير ان المؤشرات العالمية والإقليمية تفصح عن أن هذا المفهوم الجديد للإدارة الرشيدة للمدن قد تعثر في اجواء العولمة التي داهمت العالم, والتي اقترنت بإطلاق الرأسمالية وجموحها الشديد.. وهو ما أسفر عن اتساع الفجوة بين الاغنياء والفقراء.
وهو ما أدي في ذات الوقت إلي تهميش قطاعات كبيرة من السكان في جميع انحاء العالم, ومن ثم تزايدت مشكلة العشوائيات واتسع نطاقها, وتفاقمت مخاطرها.
وتشير دراسة معهد بانوس البريطاني الي ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أن ثمة شعورا مريرا ينتاب سكان العشوائيات ويتلخص في أن السلطات قد غضت الطرف عمن يعيشون في هذه العشوائيات وانهم قد سقطوا من حسابتها وخططها, ولذلك فإن لسان حالهم يقول: اننا لانعيش في هذه الاحياء العشوائية انما نحاول البقاء علي قيد الحياة.
وفيما يتعلق بكتاب كاترين بو.. وحي أنا وادي العشوائي فإن أزمة العشوائيات في ممباس قد استفحلت منذ شرعت الحكومة المركزية في الهند عام1991 في تنفيذ سياسة السوق الحرة والاصلاح1991 في تنفيذ سياسة السوق الحرة والاصلاح الاقتصادي, فيما يعد انقلابا علي سياسات ومبادئ الأباء المؤسسين للهند الحديثة وهما لمهاتما غاندي وجواهر لال نهرو أول رئيس وزراء الهند بعد استقلالها عن الاستعمار البريطاني.
فقد أدت هذه السياسات الرأسمالية الجديدة الي ارتفاع حاد في أسعار العقارات منذ منتصف التسعينيات من القرن العشرين, وتجاوزت أسعارها في ممباي مثلا الأسعار في طوكيو ونيويورك وهو ما أدي إلي تفاقم مشكلة المشردين وسكان العشوائيات.
وتشير كاترين الي أن الهجرة المستمرة من المناطق الريفية الي المدن تمثل عبئا هائلا علي الاحياء العشوائية في الهند, وفي غيرها من البلاد.
ولذلك, فإن الخبراء المعنيين بمشكلة المدن وإدارتها قد عقدوا في العاصمة الألمانية برلين المؤتمر الدولي لبحث مستقبل المدن في يوليو.2000 واشترك فيه نحو أربعة آلاف من خبراء التخطيط والمهندسين وكبار المسئولين وانصار البيئة ورجال السياسة.
وكان الهدف وضع رؤية جديدة للمدن بحيث تتوافر فيها ظروف بيئية واجتماعية واقتصادية جيدة أصدر المؤتمر تقريرا يتسم بالتفاؤل ويشير إلي ان الديمقراطية وحسن إدارة المدن والنمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي, فضلا عن تزايد التشابك والترابط لوسائل الإعلام والمعرفة علي الصعيد العالمي.. يمكن توظيفها لتحقيق تنمية المدن وتقليص مخاطر الاحياء العشوائية.
غير ان كتاب كاترين بو يشير الي ان تلك الرؤية الوردية لم تتحقق بعد.
وماتزال العشوائيات تمثل تهديدا لكرامة الإنسان وتحديا للحكومات.



المصدر الاهرام


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق