الاثنين، 16 أبريل 2012

التكنولوجيا طوق النجاة


الوعي بما يدور حولنا طوق النجاة للخروج من الحلقة المفرغة التي يدور فيها اقتصادنا‏,‏ وتشخيص الداء‏,‏ أولي خطوات العلاج‏,‏ فإذا كانت الأصوات قد بحت من الحديث عن الأزمة الخانقة التي يجتازها الاقتصاد المصري‏,‏
 واذا كانت الكتابات والتصريحات قد تراكمت منذرة بمغبة التراكمات القادمة, واذا كان الوطن قد تحول الي جزر منعزلة, كل ينظر في محيطه الضيق ولا يري أبعد من ذلك, واذا كانت بعض الرؤي قد تحجرت عند مشهد واحد, غافلة عما يدور حولنا, فيجب علينا أن نستطلع ما يدور حولنا, خاصة اذا كانت القضية تتركز في التجارة الدولية, وأن رصيدنا من العملات الأجنبية آخذ في التناقص والتآكل مما يعني أن قدرة اقتصادنا علي استشراف موقعه في التجارة الدولية تشوبه الضبابية, بينما دول العالم المختلفة آخذة في تبادل المواقع ودعم القدرات واكتساب المزيد من الخبرات, فإذا كانت التغيرات التي تشهدها نماذج التجارة الدولية ليست وليدة اليوم, ولكنها تراكم سنوات مضت, مما يعني مسئولية النظام السابق عن اخفاقنا في هذا المجال علي الرغم من الشعارات الرنانة الخاصة بنمر علي النيل, فإن مسئوليتنا في الفترة التي تلت ثورة25 يناير, لا تقل بأي حال من الأحوال عما سبق, لقد تحررت الإرادة ولكنها تاهت في فوضي المطالب الفئوية, وتعثرت في تضارب الاجنداب السياسية, وتنازع المشاعر الوطنية بين الانغلاق والانفتاح, وبين السيادة القومية وكيفية التواصل مع الآخر.
من هذا المنطلق نستعرض أحدث دراسة صادرة منذ أيام حول النماذج المتغيرة في التجارة العالمية, والتي قامت بها مجموعة عمل من الخبراء في صندوق النقد الدولي, وان كان دور الصندوق يقتصر في كونه الناشر, أما التحليلات والنتائج فهي خاصة بهذا الفريق أو مجموعة العمل التي ترأستها نجوي رياض, وجدير بالذكر أن صدور هذه الدراسة قد توافق مع صدور التوقعات الخاصة بالاقتصاد العالمي لعام2012 ـ2013, التي تضمنت الإشارة الي أن النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا, يعتمد علي الانتعاش في الاقتصاد الليبي واستمرار الآداء الجيد في الاقتصادات المصدرة للبترول, أما الدول المستوردة للبترول فإنها تواجه توقعاتmuted غير مسموعة نتيجة طول فترة التحول السياسي وذلك علي غير المتوقع ـ ومجموعة من العوامل الخارجية.
تعاظم التجارة الدولية وتعدد اللاعبين
شهدت التجارة الدولية طفرة ضخمة في آدائها علي مدي العقود الماضية, ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية, حيث قفزت من نسبة لا تتجاوز7% تقريبا من إجمالي الناتج العالمي في بداية الخمسينيات إلي أكثر من25% في عام2010, وكان للصادرات غير السلعية النصيب الأكبر حيث شكلت نسبة20% من الـ%25 مع تضاؤل دور الصادرات السلعية باستثناء فترة السبعينيات والفترة من2004 ـ.2008
وعندما نبحث عن الأسباب التي أدت الي هذه الطفرة الضخمة والتي تتركز في ثلاثة عوامل, فسوف نجد وللأسف أن المنطقة العربية ومصر في صدارتها, لم تستطع أن تأخذ بهذه الأسباب, التي أدت الي تغيير خريطة اللاعبين الأساسيين علي مسرح التجارة الدولية.
فقد شهدت الفترة منذ السبعينيات,( والتي تتطابق زمنيا مع تطورات ما بعد الانفتاح الاقتصادي, ثم تولي النظام السابق لمقاليد الحكم في البلاد).
ـ تعاظم قوة الاقتصاديات الصاعدة, ودورها في تحويل خريطة اللاعبين الرئيسيين علي الساحة أو مسرح التجارة الدولية.
ـ تزايد أهمية التجارة الإقليمية ممثلة في سلسلة من العمليات التجارية التي تؤدي إلي منتج نهائي يجمع بين مجموعة من الشركاء في التصنيع والتجميع.
ـ انتقال حظوة الصادرات التكنولوجية المتقدمة إلي الاقتصاديات الصاعدة ذات معدلات النمو المرتفعة ديناميكية النمو.
ويضاف إلي ما سبق سمة أخري تميزت بها التجارة الدولية في طفرتها عبر العقود, ألا وهي زيادة التشابك وتعدد العلاقات التجارية بين اللاعبين القدامي والجدد وآخرين, ودعم من ذلك انخفاض التعريفات الجمركية واثر التطورات التكنولوجية في خفض تكلفة النقل والاتصالات, كما توجت العوامل الثلاثة السابقة, والسمة التي صاحبتها, في ظاهرة أو عملية التخصص الرأسي بالنسبة للمنتجات, بحيث يتم توزيعها علي عدة مراحل تتم كل منها في منطقة ما داخل الدولة, أو في مجموعة من الدول طبقا لعنصر التكلفة, بحيث تتعدد العمليات التجارية بين الدول, قبل أن يصل المنتج النهائي إلي المستهلك الأساسي, كما يطلق عليه مسمي التعهيد من جانب الدول المتقدمة, للدول النامية, لاداء مهام انتاجية معينة, ولكن هذه السمة سقطت أو قزمت في قاموس العلاقات التجارية الإقليمية وتحديدا العربية.
> فأين نحن من كل ذلك, بينما المستثمرون المصريون يواجهون صعوبة في الحصول علي تأشيرات الدخول لبعض الدول في المنطقة؟ أين نحن ومشروعات السوق العربية المشتركة, ومنطقة التجارة الحرة مازالت تبكي أطلالها نتيجة حروب التعريفات الجمركية الشوفونية, والنعرات القومية في انتاج السلع ونظرية المؤامرة في التعامل مع المنتج الآخر؟
وفيما يتعلق باللاعبين الرئيسيين, فهم الذين تتجاوز معاملاتهم التجارية نسبة2% من إجمالي التجارة الدولية, وحتي بداية السبعينيات انحصرت الريادة في ثلاثة لاعبين رئيسيين: الولايات المتحدة وألمانيا واليابان, حيث شكلوا نسبة تتجاوز33% من اجمالي التجارة الدولية, وبحلول عام1990 اتسعت الدائرة لتشمل الدول ذات الاقتصادات الصاعدة, خاصة في شرق آسيا, وبحلول عام2010 أصبحت الصين ثاني أكبر شريك تجاري بعد الولايات المتحدة, متجاوزة كلا من ألمانيا واليابان, حيث شكلت التجارة الخارجية بنسبة57% من اجمالي الناتج المحلي للصين, وبما يعادل ثلاثة أمثال النسبة في الولايات المتحدة!!
وقد كان للتجمعات الإقليمية دورها في تعزيز دور هؤلاء اللاعبين الجدد, وزيادة أعدادهم من خلال المعاملات التجارية داخل هذه التجمعات التي تمتد من نافتا إلي الاتحاد الأوروبي مرورا بالتجمعات الآسيوية, فبرزت في هذا المجال المكسيك, إضافة الي دول وسط وشرق أوروبا, الي جانب سنغافورة وهونج كونج وماليزيا واندونيسيا وكذلك تركيا والهند, ومرة أخري, نتجرع مرارة الاخفاق العربي في مجال التجمعات الإقليمية, وكذلك الدور المصري في نطاق القارة الإفريقية, فلم نستطع اللحاق بالآخرين في مجال تكوين شبكة من الانتاج الإقليمي يتحول الي منتج عالمي علي غرار ما فعلت الدول الآسيوية وغيرها في شرق ووسط أوروبا, وكذلك بالنسبة للمكسيك. اعتمادا علي واردات السلع الوسيطة وتكامل مراحل انتاج السلعة النهائية.
التكنولوجيا طوق النجاة:
وقد انتقلت الدراسة من استعراضها للدول المؤثرة في التجارة الدولية والتجمعات الإقليمية, الي استعراض المراحل التي دفعت ببعض الدول وفي مقدمتها الصين الي الصفوف الأولي, ودور التكنولوجيا وسلاسل الإمداد في مجال التصنيع, وكذلك بالنسبة للطفرة في التجارة الدولية, حيث انكمشت نسبة صادرات المنسوجات والملابس والمصنوعات الخشبية وغيرها من الصناعات ذات التكنولوجيا المنخفضة لصالح تلك المتوسطة والمتقدمة.
وقد ترجم ذلك في زيادة القيمة المضافة التي أضيفت للسلع من مصادر خارجية, كما أنه يزيد من احتمالات النمو الاقتصادي مستقبلا.
وقد فرقت الدراسة بين الدول الصناعية المتقدمة, وتلك الصناعية الجديدة أو الاقتصاديات الصاعدة, في مجال التكنولوجيا, من خلال الإشارة الي تميز مجموعة الدول الأولي بأنها تصدر منتجات ذات مكون أجنبي منخفض بالنسبة للمستهلك النهائي, كما أنها مصدر ذو اسهامات ضخمة في الصادرات التكنولوجية لمجموعة الدول الثانية, وينطبق هذا الوضع علي صادرات الولايات المتحدة اليابان وألمانيا, مقارنة بالصين والهند ودول جنوب شرق آسيا, إضافة الي المكسيك ودول شرق أوروبا, وتحديدا بولندا والتشيك والمجر, حيث تمثل الدول الصناعية المتقدمة مركز القلب أو نقطة الارتكاز الرئيسية التي تنطلق منها مكونات من السلع الي الأطراف الخارجية الواقعة في إطار تجمعها الاقتصادي الإقليمي, وترتيبا علي هذا الوضع ترتفع درجة الحساسية الاقتصادية لأي تغيرات في تدفق الامدادات سواء نتيجة سياسات متخذة أو تعديل في أسعار الصرف, أو حتي الكوارث الطبيعية كما حدث بالنسبة لزلزال اليابان وأثره علي شبكة الانتاج وسلسلة الأعمال الآسيوية المتشابكة, وطبقا لهذا التقسيم يطلق علي المجموعة الأولي مسميupstream, أما الثانية فتعرف بـdownstream
مصر مؤهلة ويبقي التفعيل
< وحتي لا يفهم البعض القول بأن التكنولوجيا طوق النجاة بمثابة مصادرة للسير في هذا الاتجاه الذي سلكه الآخرون ودعمته التجمعات الاقتصادية والتجارة الإقليمية في ظل الأوضاع الداخلية والإقليمية الراهنة, نشير الي أن البداية تكون بالتكنولوجيا المنخفضة وذلك في قطاعات الصناعات التقليدية, ثم الانتقال الي التكنولوجيا متوسطة الانخفاض ويدخل في نطاقها العديد من الصناعات القائمة بالفعل في مصر, مثال تكرير النفط, البلاستيك والمطاط, صناعة بناء السفن, والمعادن الأساسية ومنتجاتها, وتمثل الصناعات التكنولوجية متوسطة الارتفاع المرحلة الثالثة وتضم الماكينات والآلات الكهربائية, إضافة الي محركات السيارات ومعدات النقل, وصولا الي صناعة الكيماويات, وهذه المرحلة ـ أيضا ـ قطعت فيها مصر شوطا طويلا ولسنوات عديدة, وتبقي المرحلة الرابعة الخاصة بالتكنولوجيا المتقدمة والتي تضم الي جانب الصناعات الفضائية, الأدوية, وأجهزة الكمبيوتر والآلات المكتبية, قطاع الاتصالات الالكترونية.
وبالنظر الي أن البدايات في كثير من هذه الصناعات بما فيها التكنولوجية متوسطة الارتفاع, وبعض قطاعات التكنولوجيا المتقدمة, قد أرست دعائمها في سنوات وعقود ماضية, يكون المطلوب هو استكمال ما انقطع والاضافة الي ما تم تحقيقه في صناعات عديدة تم خصخصتها في مصر, وهذا كله يقتضي ظروفا أمنية وأوضاعا سياسية مستقرة, تسمح للآداء الاقتصادي بالانطلاق والتعاون الاقليمي سواء علي صعيد القارة الإفريقية أو منطقة الشرق الأوسط بالاثمار, وهذا هو الحد الأدني المطلوب وليس دعاوي العصيان المدني والاضراب.
وباستعراض الملامح الأخري للنماذج المتغيرة في التجارة الدولية, سوف نجد أن النموذج الصيني يعد حافزا ومشجعا, علي سرعة استعادة التوازن الاقتصادي لمصر, وتعويض ما أهدر عبر سنوات حكم ضيق الأفق, ومطالب فئوية وأجندات سياسية متضاربة, بالإضافة الي النماذج الآسيوية الأخري التي تحذو حذو الصين.
لقد استطاعت الشبكة الآسيوية بقيادة الصين, تليها الهند, الانتقال من مرحلة المساهمة الجزئية والتجميع للصادرات الوسيطة من جانب المراكز الرئيسية, الي تأكيد بصمتها وانتاجها الوطني في الصادرات التكنولوجية المتقدمة للدول الصناعية, وقد دخلت الصين هذه المرحلة منذ منتصف التسعينيات حيث ارتفعت نسبة صادراتها من التكنولوجيا المتقدمة وأصبحت تلاحق الدول الصناعية المتقدمة في مجال هذه الصادرات جنبا الي جنب مع الاضطلاع بدور التعهيد أو ما يعرف باسمoutsourcing والذي يتضمن تنفيذ مراحل معينة من مكونات محددة من المنتج النهائي للدول المتقدمة وأبرز مثال في هذا الصدد هو اليابان علي صعيد القارة الآسيوية, ودول الاتحاد الأوروبي.
وقد ركزت الدراسة علي حقيقة مهمة يمكن الاقتداء بها وتطبيقها وبما يمكن مصر اقتصاديا من عبور الأزمة الخانقة لعنق الزجاجة, حيث أشارت الي أن عملية استيعاب التكنولوجيا ليست عملية سلبية تقتصر علي مجرد التلقي, ولكنها عنصر القدرة المستندة والمدفوعة بالارادة القومية للدولة في مجال تطويع التكنولوجيا الوافدة مع آلية العمل القائمة بها, وبالتالي فإن سياسات الدولة في مجال دراسة التكنولوجيا جنبا الي جنب مع استيرادها من الخارج, وفي ظل تدفقات استثمارية أجنبية, يمكن أن تؤدي في مجموعها الي إيجاد مزية تنافسية بين الدول, وإن تشابهت في مجالات العمل ورأس المال أو المهارات الأخري, ولاشك في أن مصر تملك هذه المقومات ويبقي التفعيل.
فهل يمكن استثمار هذا الوعي الهائل والمتزايد في التعامل مع التكنولوجيا الحديثة من جانب شبابنا؟ هل يمكن أن تتسع الآفاق بحيث تتجاوز الفيسبوك وتويتر الي مجالات التطبيق العملي في قطاعات الاقتصاد المختلفة؟
هل يمكن أن نركن الي قدر من الهدوء والأمن والاستقرار, بحيث يستعيد قطاع الصناعات التكنولوجية وانشطة التعهيد دورها المتنامي في الاقتصاد المصري ويتسع مجال التطبيق في قطاعات أخري من الاقتصاد؟
كل هذا يمكن اذا توقفنا عن الغناء والخطب الرنانة ورفعنا شعار مصر القوية بشعبها وثرواتها الطبيعية في ظل استقرار سياسي ونمو اقتصادي.





المصدر الاهرام


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق