الكاتب :حسن نافعة - المصري اليوم
فى الحلقة الثالثة من حواره مع الإعلامى محمد كريشان، التى بثتها فضائية «الجزيرة» مساء الخميس الماضى، استخدم الأستاذ محمد حسنين هيكل تعبير «البحر الجاف» لوصف الحالة السياسية الراهنة فى مصر. بدا التعبير صادما ومتناقضا بشدة مع تعبير آخر، أكثر شيوعا، اعتاد عليه أغلب كتابنا، ألا وهو تعبير «البحيرة الراكدة».
ويبدو أن التعبير الذى استخدمه هيكل هو الأكثر قدرة على وصف الواقع المصرى، بصرف النظر عن حجم ما يثيره فى النفس من إحباط قد يصل إلى حد اليأس.
فالبحيرة، حتى وإن كانت راكدة، تظل على الأقل مملوءة بالماء، وتصبح من ثم قابلة للاستخدام من جانب السباحين، إن أرادوا العوم، والغطاسين، إن إرادوا الغوص، والسفن، إن قررت الإقلاع أو الإبحار.
بل يمكن لأى شخص أن يحرك مياهها الراكدة، إن أراد، بإلقاء حجر كبير فيها. أما عندما تجف البحيرة وتصبح بلا ماء فمن الطبيعى أن تجف فيها الحياة، وتتحول إلى حفرة كبيرة لا تصلح لشىء نافع أو مفيد. لذا يبدو أن ما نراه على سطح الحياة السياسية الجاف فى مصر هو مجرد سراب.
فحين يقال لك إن فى مصر تعددية حزبية، ويدللون على ذلك بوجود ٢٤ حزبا مصرحاً لها رسميا بممارسة النشاط، لا تصدق ما يقال. فالأغلبية الساحقة من هذه الأحزاب لا وجود حقيقياً لها فى الشارع، أربعة منها مجمدة بسبب التنازع على رئاستها، ولا يستطيع أى منها، سواء كان مجمدا أو غير مجمد، أن يمارس نشاطه الطبيعى فى ظل قانون الطوارئ والقيود المفروضة على الحريات السياسية والمدنية.
لذا توجد أيضا ١٢ حزبا وقوة سياسية أخرى إما محظورة قانونا، كجماعتى الإخوان المسلمين والتكفير والهجرة وغيرهما، أو غير مصرح لها رسميا بالعمل وممارسة النشاط، كأحزاب الوسط والكرامة والحزب الليبرالى وغيرها، لكنها تعمل «من الباطن»، وأحيانا يكون لها نواب فى مجلس الشعب أكثر مما لدى الأحزاب الرسمية.
وحين يقال لك إن فى مصر سلطة تشريعية منتخبة، لا تصدق ما يقال. فلا يمكن لأى حزب فى العالم أن يهيمن منفردا على الأغلبية الساحقة من مقاعد البرلمان، ولمدة ٣٠ عاما متصلة وعبر انتخابات حقيقية، إلا إذا كان حزبا من الملائكة، والحزب الحاكم فى مصر لا ينتمى لهذا النوع.
وأى برلمان لا يستطيع سحب الثقة من وزارة أو حتى محاكمة وزير أثناء توليه المنصب لمدة ثلاثين عاما متصلة، لا يمكن أن يشكل سلطة رقابية حقيقية، ومن الطبيعى أن يعد امتدادا للسلطة التنفيذية. وأظن أن العالم كله فهم الآن، من خلال متابعته لانتخابات مجلس الشعب الأخيرة، أى نوع من الانتخابات يمكن أن تفرز مثل هذه الأغلبية المهيمنة.
وحين يقال لك إن فى مصر قضاء مستقلاً، لا تصدق ما يقال. فالقضاء لا يكون مستقلا فى وجود محاكم استثنائية، كالمحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة وغيرها، وعندما لا تنفذ أحكامه أو تحترم، حتى من جانب الدولة نفسها.
وحين يقال لك إن فى مصر مجتمعاً مدنياً يتمتع بالحيوية ويدافع عن حقوق جميع الشرائح الاجتماعية، لا تصدق ما يقال. ويكفى أن تلقى نظرة على تشكيل مجالس إدارات النقابات العمالية، والمهنية، والاتحادات الطلابية.. إلخ، لتكتشف أن العديد منها مجمد أو تحت الحراسة أو تسيطر عليه الأجهزة الأمنية مباشرة، وأن الانتخابات النزيهة الوحيدة فى مصر تتم فقط فى الأندية الرياضية.. والقائمة تطول.
فى سياق كهذا، يصعب على أى عمل جماعى أن يفرز شيئا له قيمة وقابلاً للدوام. ولم يكن من قبيل المصادفة تجمد الحياة فى عروق الأحزاب الرسمية التى ظهرت منذ بداية التجربة التعددية، وأيضا تعثر كل محاولات تجاوزها لإحداث التغيير. فأينما ولّيت وجهك ستجد رجال أمن بانتظارك جاهزين للخدمة.
فى مصر رجال كثيرون على استعداد للتضحية بكل ما يملكون من أجل إنقاذ هذا الوطن. ولأن المنابع كلها نضبت ولم يبق هناك سوى حفرة كبيرة، فلم يعد بمقدور أحد أن يعبر إلى الضفة الأخرى، لا فوق ظهر سفينة ولا سباحة ولا حتى غوصا. يبدو أنه بات على كل المخلصين أن يفكروا أولا فى ضخ المياه فى بحيرة الوطن الجافة قبل أن يفكروا فى العبور إلى الناحية الأخرى!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق