الأحد، 15 أبريل 2012

في عيد القيامة المجيد‏:‏ تنويعات ثقافية علي لحن مصري أصيل


ان الأشياء المادية يمكن ان تهدم ليحل محلها ما هو أحسن منها‏,‏ لكن من الصعب استرجاع فضيلة تبددت أوصالها عبارة سطرتها الباحثة الأمريكية سيونايد ميري روبرتسون في كتابها‏(‏ الأشغال الفنية والثقافة المعاصرة‏),‏
 و رغم أن العبارة الكاشفة جاءت في سياق دراستها للتحولات التي شهدها المجتمع الغربي و العلاقة بين القيم الثقافية و المنتج المجتمعي, إلا أن دلالاتها الضمنية و نتائجها الكاشفة تنطبق تماما علي أي محاولة لتزييف القيم الأصيلة وإلباس الباطل ثوب الحق.و في حالتنا المصرية,أظنها تتطابق تماما مع النتائج المنتظرة إذا ما نجحت محاولات العبث بمنظومتنا القيمية الأصيلة وتغييب وعي وضمير المواطن المصري وبث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد, و بالتالي مسخ الهوية المصرية وإفساد نموذجها القائم علي احترام الأديان وتزييف الحقيقة الراسخة في نفوس كل المصريين بأن الدين لله والوطن للجميع. سمات وفضائل, أرحب وأهم من تلك التي تحدثت عنها الكاتبة وحذرت من تقطيع أوصالها, فإذا ما بددناها اليوم تحت وطأة ضغوط اللحظة, لن نستعيدها في الغد مهما حاولنا.!!.
.ومع إشراقة العيد نرتحل عبر الزمان والمكان لنطالع صورا وسطورا من التراث القبطي علي أرض مصر و لنقرأ بعقولنا و قلوبنا صفحات من تاريخنا لم يكن في سطورها مكان لحديث الملة و لا الفتن. نستعيد من بين سحب الذاكرة حديث الأحجار ونحل طلاسم وأسرار الأشكال والزخارف ونصغي لتداخل أصوات الترانيم بالأذان. نتوقف أمام حكايات البناء المصري الذي بني و رمم الكنائس والجوامع و المعابد و قرأ القرآن و الإنجيل لتمتزج كلمتي كيرا ليسيون بالله أكبر عند مواجهة مصر للمحن. تطالعنا صورة المصري البسيط الذي استطاع بفطرته تجاوز مناطق الاختلاف العقائدي عبر مساحات مشتركة, أبعد ما تكون عن التطرف, فالتمس البركة لدي الأولياء والقديسين و حول السيد البدوي و ماري جر جس لبطلين شعبيين وجعل مسلمي مصر يحتفلون بسانت تريز و مار برسوم الذي أطلقوا عليه اسم محمد العريان أو سيدي العريان وربطوا بين زهده ومقاومته للظلم وترويضه للحية وبين صفات السيد البدوي وحكاياته.
في كتابه الأعمدة السبعة للشخصية المصرية يشير د. ميلاد حنا إلي أن مصر شعب واحد تحول إلي سبيكة في بوتقة الانصهار, فأصبح نسيجا واحدا وإن كانت له ديانتان هما الإسلام والمسيحية, وهو الأمر الذي أشارت إليه لوسي دف جوردن في كتابها رسائل من مصر1862-.1869فقد لاحظت الكاتبة أثناء رحلتها لمصر تطابق عادات مسيحيي ومسلمي مصر الاجتماعية وأن العلاقة بينهما أبعد ما تكون عن التعصب, و ردت الظاهرة إلي تراث الحضارة المصرية القديمة التي أثمرت حلولا مصرية أصيلة لمشكلات مجتمعية وتجلت تأثيراتها في فكرة التوحيد و التدين البعيد عن التعصب. و الحقيقة أن ملاحظة جوردون ليست الوحيدة في هذا السياق, فهناك ما يماثلها في كتاب عالمة الأنثروبولوجي البريطانية وينفريد بلاكمان( فلاحين مصر) ـ الذي صدر عام1926) و مذكرات برايس دافين المعروف بادريس افندي و كتاب س. هـ. ليدر( عادات مسيحيي مصر في أوائل القرن العشرين), وهو نفسه ما أكده الباحث المصري عصام ستاتي في كتابه مقدمة في الفلكلور القبطي,إذ أوضح أن الوجدان الشعبي المصري تجاوز كل المتناقضات وأوجد حالة من التسامح و التعايش الديني و ألغي التناقض بين الأسطورة والمعتقدات الدينية عندما ابتكر ممارساته الشعبية الخاصة.
فإذا ما انتقلنا من البناء المعنوي إلي المادي, تطالعنا ظاهرة تماثل العناصر المعمارية والزخرفية المستخدمة في دور العبادة المسيحية والإسلامية والمنسوجات( والتي تتجلي بوضوح في منتجات نسيج الخيمية المصري و القباب وتشابه الوحدات الزخرفية في المعمارالقبطي والإسلامي و ظاهرة استخدام رمز الصليب بين القبائل المسلمة المصرية كعنصر زخرفي في الملابس و كوشم علي الرسغ), و التي وثقتها عدة دراسات, نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر عمارة الكنائس و الأديرة في العصر الإسلامي للباحث محمد إسماعيل حسين ودراسة لؤي محمود سعيد عن استخدام الصليب كرمز زخرفي. ومجموعة أبحاث د.عبد الرحيم ريحان عن آثار سيناء و دير سانت كاترين و مكتبته وأديرة و كنائس المنطقة والتي كشفت عن عهد آمان من رسول الله( صلي الله عليه وسلم) لرهبان سيناء ولعهود أمان مماثلة من خلفاء المسلمين, بلغت مائتي فرمان تؤكد كلها حماية الأديرة ومكتباتها والرهبان..
و في ملف تلاوة القرآن الكريم الذي قدمته صفحة دنيا الثقافة في شهر رمضان قبل أعوام, كشف تحقيق الزميل خالد المطعني, علي لسان عدد من مشاهير تلاوة القرآن و خبراء الموسيقي و أساتذة التاريخ عن المساحة المشتركة بين أسلوب تلاوة القرآن في مصر و إيقاع الترانيم الكنسية والمصرية القديمة.
و أخيرا, فهي مصر.. ناقوس كنيسة وصوت أذان.. ترنيمة و ابتهال.. مخطوطات و أيقونات.. حكايات لا تستبدل و فضائل إن ضاعت, ضعنا معها, و عز استردادها مهما حاولنا.

المصدر الاهرام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق