مناسبة ما أثير مؤخراً من جدل حول استئثار الإخوان بأغلبية مقاعد مجلسى الشعب والشورى، ثم قيام الجماعة باختيار أغلبية أعضاء الجمعية التأسيسية التى ستضع دستوراً للبلاد، من نفس أعضائها، تذكرت حديثين طويلين مع من يعرفون جماعة الإخوان جيداً. وهما بمثابة شهادتين تفسران ما حدث، وما يمكن أن يحدث من سلوك سياسى لحزب «الحرية والعدالة»، الناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين.
وفحوى التفسير هو أن الجماعة تستبطن «نرجسية» تجعلها، لا فقط تعتبر نفسها الأحق بكل شىء فى الدنيا بل الآخرة أيضاً، لدرجة عبادة «ذاتها» من دون الله والوطن. ولولا معرفتى الوثيقة بأصحاب الشهادتين، لشككت فى مصداقيتهم حينما سمعت منهم هذا التأكيد. كانت الشهادة الأولى من المُفكر الإسلامى الكبير جمال البنا، شقيق الراحل حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين. وكانت المناسبة منذ حوالى رُبع قرن حينما دعوت الرجل لعضوية مجلس أمناء مركز ابن خلدون. فقد كان هناك حرص من العاملين فى المركز على أن يُمثل مجلس الأمناء كل ألوان الطيف الفكرى والسياسى من الفكر الروحى إلى الفكر المادى، ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
وحينما عبّرت عن هذا الخاطر للأستاذ جمال البنا، بادرنى بأنه «إسلامى»، ولكنه غير «إخوانى». ولما سألت عن سبب عزوفه عن الانضمام للإخوان المسلمين، وهو الذى يُحب أخاه الأكبر، ويُجله إجلالاً عظيماً؟ بادرنى الرجل بعبارة أخرى، أشبه بما قاله «بروتس»، عضو مجلس شيوخ روما، وكان هو الأقرب لقيصر: نعم، أحبك يا عزيزى قيصر، ولكنى أحب روما أكثر. إذ قال جمال البنا «نعم، كنت أحب شقيقى الأكبر كثيراً، فقد كان أكثر من شقيق.. لقد كان مُعلماً، وأباً. وكانت إحدى القيم التى غرسها فينا هى قيمة «الحُرية»، كمصدر لكل القيم والمبادئ الأخرى».
ثم أردف جمال البنا، أنه اكتشف مُبكراً أن «السمع والطاعة»، هو المبدأ الحاكم فى جماعة الإخوان المسلمين، وأن ذلك يتعارض مع قيمة «الحُرية»، التى جعلها الله، عز وجل، هى أساس الإيمان به- «فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر». ثم راقب الرجل عن كثب كيف تُدار شؤون الجماعة، وكيف يتخذ القرار، وكيف يتم تنفيذه. وخلص إلى أن الجماعة لا تختلف تنظيمياً عن «الحزب الشيوعى»، كما تصوره وطبّقه «نيقولاى لينين»، رئيس أول وزراء فى روسيا البلشفية (١٩١٨-١٩٢٤). ولهذا السبب لم ينضم جمال البنا إلى الجماعة، التى أسسها شقيقه!
أما الشهادة الثانية، فقد جاءت من رفاق السجن، من الإسلاميين. وفى السجون، كما فى الحروب، وكما فى سنوات الدراسة، تنشأ رابطة وثيقة برفاق السجن، حتى لو جاءوا من خلفيات فكرية وطبقية مختلفة تماماً، وفى السجون بعد فترة التكدير والتعذيب والامتهان الأولى، أو ربما بسببها، تنشأ بين الضحايا ألفة، تكشف عن معادن البشر، وتتحول هذه الألفة تدريجياً إلى «عُروة وثقى». لذلك رغم «علمانيتى»، توثقت علاقتى بعديد من الإسلاميين- تكفيريين، وجهاديين، و«إخوان مسلمين». وظل هؤلاء جميعاً على علاقات ودودة معى، على مر السنوات بعد الخروج من السجن.
وجاء عدد منهم لزيارتى فى آخر عيد أضحى. وضمن ما تحدثنا فيه رغبة الجهاديين منهم الانخراط فى الحياة العامة، والمُشاركة السياسية النشطة.
ولما اقترحت عليهم الانضمام إلى حزب «الحُرية والعدالة» التابع للإخوان المسلمين، ردوا جميعاً بنفس العبارة: «أعوذ بالله». وأبديت دهشتى قائلاً: أليس هذا الحزب هو الأقرب إلى مُعتقداتكم وتوجهاتكم؟
ردوا علىّ، بشىء قريب جداً مما كان قد قاله لى الأستاذ جمال البنا منذ عدة سنوات، مع تفصيلات أخرى مريرة، من واقع مُعاملاتهم المُباشرة مع الإخوان.
من ذلك أن الإخوان، رغم أن أحد شعاراتهم التى يتغنون بها، هو أن «الجهاد فى سبيل الله أغلى أمانينا» إلا أنهم منذ حرب فلسطين الأولى (١٩٤٨/١٩٤٩) لم يُشاركوا فى أى «جهاد»- لا فى أفغانستان، ولا فى العراق، ولا فى البوسنة، ولا فى ألبانيا- رغم أن هذه البُلدان الإسلامية شهدت صراعات مُمتدة لسنوات طويلة.
ومن ذلك أنهم رغم ثرواتهم الطائلة، لم يقوموا أبداً بنجدة أى جماعة إسلامية فى محنة أو ضيق. وتحدونى فى أن أذكر حالة واحدة فعلوا معها ذلك فى داخل مصر أو خارجها!
وخُلاصة ما قاله الجهاديون أن ولاء الجماعة هو للجماعة، وللجماعة فقط. أى أنه قد يكون مفهوماً أن «الأقربون أولى بالمعروف»، لكنه فى حالة الجماعة هم فقط المستحقون للمعروف، دون غيرهم.
وسألنى أحد رفاق السجن من الإسلاميين: هل شاركت أى عضو من الإخوان المسلمين حتى فى إفطار رمضان، وقد مر عليك ثلاث رمضانات؟ وللأسف كان السائل على حق. أى أنه رغم معرفتى بعدد كبير من الإخوان فى السجن، إلا أنهم لم يتبادلوا العطاء، لا معى ولا مع غيرى من رفاق السجن من غير الإخوان.
وكان الأخطر فى حديث «الجهاديين»، هو أن الإخوان لا يكتفون أبداً حتى بنصيب الأسد، ولكنهم يحرصون على الاستحواذ الكامل، كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. لذلك، فالأمر لن يتوقف على ما فعلوه فى اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور. إن ذلك مُجرد «مؤشر» مُبكر على نزعتهم الاستحواذية، والتى ستمتد إلى الاقتصاد والثقافة. فكل مفاتيح الاستيراد والتصدير، والتوزيع، والعطاءات، والمُقاولات ستكون فى أيديهم. ولن يتركوا لغيرهم إلا الفتات.
فإذا كان كل، أو حتى بعض من ذلك صحيحاً، فليس أمام شعبنا المصرى، من غير الإخوان، إلا إحدى استجابتين: الاستسلام لقضاء الله والإخوان، أو الاستعداد لثورة ثانية، لتحرير مصر من جبروت الإخوان المسلمين.
وعلى الله قصد السبيل.
المصدر : المصري اليوم - بقلم سعد الدين ابراهيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق