جمال سلطان
يحكي لي الصديق الباحث والأكاديمي المرموق، والذي قضى عشرين عامًا من عمره في جماعة الإخوان، أن أعضاء مكتب الإرشاد كانوا غير مقتنعين بأن المجلس العسكري السابق "بقيادة طنطاوي وعنان" سيخرج من السلطة أو سيسلمها لقيادة مدنية، وظلت هذه قناعتهم حتى إجراء الانتخابات الرئاسية، وفي إشارة مهمة، قال أحد أعضاء مكتب الإرشاد لمحاوره: "يا ابني هو اللي ركب ها ينزل"؟! وهي عبارة تمثل وعيًا باطنيًا عميقًا لدى الجماعة تجاه فكرة السلطة وقيمة الديمقراطية وفرضية التداول السلمي، والحقيقة أن هذه العبارة سمعتها بنفسي من أحد أعضاء الجماعة البارزين، وهو أستاذ بكلية الطب في نهاية حوار ساخن معه، حيث قال بحسم: "نعم احنا ركبنا ومش ها ننزل ولو بالدم"، فكرة ركوب الدولة، وأن من ركب لا يفكر في النزول، كانت كامنة في سلوك الجماعة وتخطيطها واستراتيجيتها، كان هناك إدراك صريح بأن هذه لحظة "التمكين"، وقد سمعت هذا التعبير مرارًا من كوادر الجماعة في حوارات جماعية خاصة، ومن يبحث عن "التمكين" لا يفكر أبدًا في "النزول"، ولا يؤسس نهائيًا لأفكار من مثل "التداول السلمي للسلطة"، كل ما يفكر فيه ويخطط له كيف يغلق الدوائر الديمقراطية التي يمكن أن يتسلل منها "الأعداء" ويهددون بقاءه على العرش أو يهددون "ركوبه"، ولذلك عندما أدركت الجماعة أن شعبيتها هبطت كثيرًا في الأشهر الأخيرة من حكم مرسي ظل الإخوان يراوغون طويلاً في مسألة إجراء الانتخابات البرلمانية، ويصطنعون في مجلس الشورى الذي يهيمنون عليه قوانين منحرفة ومضحكة وهم يدركون أن المحكمة الدستورية سترفضها قطعًا، وما بين الذهاب والجيئة من الشورى للدستورية والعكس، تمهل الجماعة نفسها زمنًا أطول لترتيب الأمور، ولذلك كانت حريصة على سرعة إنجاز قانون السلطة القضائية الخطير قبل أي انتخابات، رغم الغضب العارم بين القضاة، لأن هيكلة القضاء على مقاس الجماعة كانت ستضمن سيطرة مكتب الإرشاد على توجهات القضاء، وبالتالي امتلاك أداة ردع قانوني للمعارضين من جهة، ومن جهة أخرى السيطرة الكاملة على مسارات أي عملية انتخابية، لأن اللجنة القضائية المشرفة على الانتخابات ستكون خاضعة تمامًا لتوجيه وهيمنة مكتب الإرشاد، بما يسمح بهندسة أي انتخابات تعزز "التمكين" أو "الركوب"، ولو تمت للجماعة هذه الخطوة لتم لها السيطرة على السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبذلك تكون قد أحكمت سيطرتها على سلطات الدولة "المدنية" جميعًا، ولهذا السبب تحديدًا كانت ترفض بكل صرامة وحسم أي مطلب لإقالة حكومة هشام قنديل الضعيفة أو تشكيل حكومة محايدة للإشراف على الانتخابات، بل كان مرسي يجري تعديلات مرحلية مستمرة للحكومة يعزز فيها وزراء الإخوان، ويركز فيها على الوزارات المؤثرة مباشرة في العملية الانتخابية وتوجهات الناخبين، مثل وزارات الإعلام والشباب والأوقاف والإدارة المحلية، إضافة إلى السيطرة الكاملة على وزارات المجموعة الاقتصادية، وحاولوا أكثر من مرة الإطاحة بشيخ الأزهر لتمكين مكتب الإرشاد من السيطرة على مقام المشيخة الخطير بكل حضوره وتأثيره في الرأي العام فلم يستطيعوا، كان الإخوان يرتبون كل شيء من أجل هندسة الانتخابات البرلمانية، لأنها كانت الحاسمة لسيطرة الجماعة على السلطة التنفيذية والتشريعية بشكل مطلق وتحقيق مشروع "التمكين" أو "ركوب" الدولة لسنوات طويلة مقبلة بلا منازعة أو فرصة لنزال ديمقراطي حقيقي، وكان للمهندس خيرت الشاطر ترتيبات لاختراق المؤسسة الأمنية قطعت شوطًا من خلال زرع بعض القيادات الموالية في بعض أجهزة وزارة الداخلية الحساسة، لكن الوقت لم يسعفه لإكمالها، كما أجرت الجماعة اتصالات سرية وتآمرية مع بعض القادة الميدانيين بالجيش لمحاولة اختراق المؤسسة العسكرية وإحداث انقلاب داخلي، والإطاحة بالقيادة الحالية بما فيها قائد الجيش ورئيس الأركان، وهي حركة لا تتصل بمصالح وطن ولا دولة، لأن الجماعة لا تملك خبرات عسكرية تتيح لها فرز الكفاءات وتقديرها، كما أن مرسي نفسه غير قيادات الجيش قبل عدة أشهر، وإنما كانت مجرد محاولة اختراق حزبي وتنظيمي صريحة للجيش، لتحويله إلى أداة قمع وسيطرة بيد الجماعة، ولو نجحت هذه الخطوة لدخلت مصر في نفق مظلم من الاستبداد والديكتاتورية المطلقة لعقود طويلة مقبلة، ولذلك أتى تدخل الجيش بحسم الموقف في 30 يونيه تضامنًا حقيقيًا مع قلق ومخاوف ملايين المصريين وقوى سياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بما فيها قوى إسلامية، أحزابًا ورموزًا، لأن الجميع كان يرى بعينيه ويدرك أن سلوك الجماعة وخططها وتحركاتها تسحب الدولة إلى هذا النفق المظلم والخطير، وأن الهيمنة المطلقة لها على الدولة ومؤسساتها وأجهزتها مسألة وقت لا أكثر، وأن تلك القضبان التي تسير عليها الجماعة تنتهي إلى صناعة دولة مستبدة وفاشية خلال سنوات قليلة، وأن الجماعة كانت في سباق مع الزمن لإنجاز هذا المخطط في أسرع وقت، وكأن هناك من يلاحقها أو كأنها ـ على حد تعبير مفكر إسلامي مرموق ـ تشعر أنها سرقت شيئًا وهناك من يطاردها لاستعادته، كان هناك قبول عام وواسع النطاق لخطوة الجيش بعزل مرسي والإطاحة بجماعة الإخوان ومشروعها للهيمنة، وإن كانت بعض الأحداث والممارسات الأمنية التي أعقبت الخطوة قد أثارت قلق تيار إسلامي واسع شعر بأن التيار كله مستهدف وليس الإخوان فقط، وقد ساعد على تنامي تلك المخاوف إعلام متطرف وإقصائي وظهور مكثف لرموز فلول نظام مبارك في صدارة المشهد الإعلامي.
المصدر المصريون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق