السبت، 10 مارس 2012

الموسيقار الكبير محمد سلطان :‏ السادات استدعاني بسبب العيون الكواحل‏!‏

يعد الموسيقار الكبير محمد سلطان أحد أساتذة التلحين في الأغنية العربية‏,‏ وقد نال هذا اللقب عن جدارة من خلال مسيرته الفنية الثرية‏,‏ التي بدأت منذ أكثر من خمسين عاما‏,‏ حين بزغ اسمه في سماء الطرب بين أساطين التلحين أو أدباء النغم الذين يعبرون بالأنغام ما قد تعجز عنه أبلغ الكلمات.
محمد سلطان اثناء حواره مع محررة الاهرام
محمد سلطان اثناء حواره مع محررة الاهرام

 عشق الموسيقي, فعصف النغم, بخياله فجسده في نغمات بيانو يستعطف الحبيب, أو أوتار كمان تبكي لوعة الفراق, وأحيانا في احتفاء الأورج باللقاء.. رصيد ضخم من الرومانسيات وأعمال عظيمة لا يعلوها الصدأ تغني بها: ليلي مراد وصباح وسعاد محمد ووردة وكارم محمود وعادل مأمون وعشرات الأصوات التي اكتشفها وأصبحت تتصدر الساحة الغنائية.. صلة رحم خفية تجمع بين مؤلفاته, مغزاها رهافة الإحساس وحسن التعبير.. أي أعلي درجات الصدق تلك هي المكانة التي تبوأها رئيس جمعية المؤلفين والملحنين, حيث يجاهد لرفع مستوي الوعي العام بحق المبدع الحقيقي المؤلف والملحن ـ معنويا وأدبيا.. وإذا كانت الكلمة هي التي تحفر مجري اللحن فقد حرص علي اختيارها وبث الروح فيها بأنغامه التي يؤكد أنها لا تهبط علي الملحن من السماء فقط, ولكن التلحين كدح وموهبة ودراسة لا تعرف الارتجال.. فالفنان لا يصل أبدا إلي سدرة المنتهي اعتقادا منه أنه بلغ القمة الشماء.. كلا فمن يفعل ذلك يتحجر.. فالفنان نحلة تفرز في دأب ومثابرة ونظام وهذا ما لا تعرفه الأجيال الحالية التي تتعجل الجلوس علي كرسي الأستاذ أولا لا التلميذ.. شكل سلطان مع رفيقة عمره فايزة أحمد ثنائيا غنائيا قلما يتكرر فقد أحبها حبين: حب الهوي وحبا لأنها أهلا لذاكا.. فهي سيدة الإحساس والشجن.. التي مازالت أعمالهما معا شأن كل الإبداعات الرفيعة لا تفض أسرارها وتظل تحمل دلالات ومعاني كلما تقدم الزمن.. جو من الهدوء والتوازن النفسي يستشعره من يجلس إلي محمد سلطان, ولكنه سيلمح نظرة تشاؤم سرعان ما تتلاشي, فالعتمة الفنية الحالية والغمام لن يدوم, أنه تفاؤل ابن المدينة التي اعتادت أن تنفث السحر والجمال والإبداع.. اسكندرية كمان وكمان.
في حوار الذكريات نحرص علي الاستفسار دائما عن أثر البيئة في إيقاظ الموهبة الفنية تعميقا لمعرفتنا بالمبدع والإفادة من تجربته الإنسانية ؟
بالفعل, فالبيئة والتربية الفنية وتنمية الحس الجمالي والارتقاء الثقافي كل هذه العوامل لها أثر بالغ في بزوغ موهبة الفنان الذي يكون في بدايته كالعصفور, لا يغرد إلا إذا صحا الجو العام من حوله فقد تنحبس الموهبة حينا من الزمن لكنها ستظهر حتما حين تصبح الظروف مواتية, وعلي المستوي الشخصي فقد كان للبيئة في مدينة الإسكندرية دور رئيسي في بزوغ موهبتي الموسيقية والقصة تعود لما قبل ميلادي حين استشعرت والدتي أنها ستنجب يقين ولدا وتمنت أن يكون صوته شجيا يشنف الآذان مثل صوت مطربها الأثير محمد عبد الوهاب, فنصحتها إحدي صديقاتها بإعطاء مولودها المتوقع ملعقة من عصير الرمان بمجرد ولادته ضمانا لكي يصبح صوته جميلا, وفعلت هذه الوصفة بحذافيرها.. فأصبت بنزلة معوية وحين علم الطبيب وجه إليها اللوم لأنها لم ترضعني في البداية, ثم تمنحني ما شاءت من وصفات.. فوالدتي- رحمها الله- كانت سيدة رائعة محبة للحياة تعشق الموسيقي والغناء وكانت تعزف البيانو.. استشعرت بحدسها حبي للموسيقي وأنا في الثالثة من عمري.. حيث كنت أدندن قبل أن أخلد للنوم, وحين بلغت السادسة كنت قد تشبعت بعزفها علي البيانو, إضافة لشرائها آلة العود من أجلي, وتركتني مع أوتارها وحدي في هذه السن الصغيرة أتأمل أوتارها وأداعبها.. فتفجر عشقي للعود ملك الآلات الوترية ولم يفارقني منذ الثامنة من عمري, فالفنان يمتص رحيقا موسيقيا ثم يضيف ما ترسب في وجدانه من مشاعر وأحاسيس تتحول لأنغام تصل للناس بصدق التعبير وبساطته.. فأنا كنت أستمع إلي كل السيمفونيات العالمية وأعمال كبار الملحنين في مصر, وكانت والدتي تحرص علي إتاحة الفرصة أمامي لسماع الأغاني الفرنسية والإيطالية, كان غذاء موسيقيا دسما اسهم في تكوين عضلاتي الفنية.. وفي سن السادسة عشرة أصبحت قائدا لفرقة موسيقية.. وقدمني موسيقار الأجيال عبد الوهاب كأصغر ملحن لإذاعة الإسكندرية.
ولكن كيف تعرفت بعبد الوهاب, ولماذا درست الحقوق بالرغم من موهبتك المبشرة في الموسيقي ؟!
كنت مأخوذا بمحمد عبد الوهاب كمطرب يمتلك صوتا من أجمل الأصوات وأبلغها.. معجبا بألحانه إلي أقصي درجة بل إنني كنت أحفظ كل أغانيه تقريبا.. كنت في الثانية عشر من عمري حين امتدت يدي لدليل التليفون تبحث في شوق وفضول عن رقم تليفون الموسيقار الكبير بالإسكندرية, حيث كان يقضي أشهر الصيف في فيلته الخاصة بشاطئ جليم وكانت لا تبعد عن منزلنا سوي مائتي متر فأدرت قرص التليفون وأنساب صوته المميز وأخبرته أنني في الثانية عشرة ومن أكثر معجبيه وأقوم بالتلحين أيضا.. ثم دعاني لزيارته فذهبت إلي الفيلا, وأشار الحارس إلي وجود الأستاذ بجوار سيارته الموريس البيج.. فبكيت وكتبت له خطابا أعاتبه فيه لأنه لم يوف بوعده واستهان بمشاعري التي جرحها وتركت رقم تليفوني60958 وصباح اليوم التالي أيقظتني والدتي لتخبرني أن شخصا أسمه محمد عبد الوهاب علي التليفون يريد التحدث معي!! فنهضت قفزا من سريري وفي كلمات مقتضبة طلب رؤيتي في الحال.. وبمجرد أن شاهدني أمامه بالشورت القصير قال: أنت محمد سلطان يا حبيبي وقبلني بحنان, ومنذ تلك اللحظة ارتبطت به إنسانيا, وعاد معي إلي منزلي وفوجئت والدتي بأن محمد عبد الوهاب الذي كان يتحدث مع ابنها هو المطرب الكبير.. وأصبحت قريبا من عائلته أتناول الغذاء معه هو وزوجته إقبال نصار أم أبنائه وفي الوقت نفسه نشأت صداقة بينه وبين أسرتي, وحاول إقناع والدي وكان ضابطا بالبوليس بأنني سأصبح ملحنا كبيرا ومن الأفضل أن أدرس الموسيقي لكن الوالد أصر علي إلحاقي بكلية الحقوق لدراسة القانون وامتثلت لإرادته.. فأنا استفدت كثيرا من التوازن في التربية بين الوالدين, ففي البدء التحقت بكلية فيكتوريا وكانت الوالدة تتحدث معي ومع أشقائي الفرنسية بمجرد اتقاننا النطق, ثم قرر الوالد أن أعتني بالمثل باللغة العربية وحفظ القرآن وحصلت علي الثانوية من مدرسة الرمل الثانوية.. فأنا أعتقد أن طاعة الوالدين هي سر نجاحي.
كيف نمت ثقافتك الموسيقية لتصبح من أساتذة التلحين بهذه العصامية الفنية ؟
الحب يصنع المعجزات.. وحبي للموسيقي دفعني لتعلمها.. فقمت بشراء كتاب البونا لأ تعلم النوتة الموسيقية, وأصبحت أفك الخط وحدي ثم أحضرت مدرسا لأتعلم المقامات.. وهذا أمر طبيعي فهل يزاول إنسان مهنة لا يفقه فيها شيئا؟ ولكن هذا يحدث الآن.. وأشاهده كثيرا بصفتي عضوا في لجنة الاستماع في الإذاعة, امتحنت العديد من الملحنين الذين يجهلون المقام أو دليله بلغة الموسيقي.. لا يعرفون السلم الموسيقي فأسألهم كيف تقومون بتأليف الموسيقي أذن ؟ ويكون الرد أن الموزع هو الذي وضع المقدمة, فأندهش كيف يكتبون أنهم ملحنون ؟ وحين سألت الموزع عن أسلوب التلحين لم يعرف هو أيضا, ولكنهم أفادوني بأنهم يستعينون بالـkeyboard ويقومون بوضع الخط الأول فيعطيه الكمبيوتر الخط الثاني.. فأخبرتهم أن هذا ليس تلحينا أو توزيعا ولكنه توزيع الحائط.. نحن الآن نعاني انحطاطا موسيقيا غير مسبوق, فهم يفتقدون الحد الأدني من الثقافة الموسيقية.. وانهيار الموسيقي والغناء كفيل بانهيار كل الفنون لأنهما قاطرة الرقي والازدهار في مختلف العصور.
اجتذبتك السينما وقمت بتمثيل11 فيلما هل يعزي السبب إلي تعدد القدرات ووفرة المواهب.. أم السبب الوسامة التي كانت تعتد بها السينما آنذاك في المقام الأول ؟
التمثيل فن تعبيري يتطلب تقمصا وانفعالا وخيالا وغيرها من القوي الوجدانية, كان لدي ميل داخلي لذلك بحكم تكويني, ولكن الصدفة كانت حاضرة في نقطة البداية.. فوالدي كان يمتلك مدرسة للفروسية في( سموحة) اشتراها من مدرب خيول فرنسي شهير صفي أعماله بالإسكندرية وعاد إلي بلده.. وفي أحد الأيام أثناء قفزي بالحصان شاهدني المخرج يوسف شاهين وعرفني بنفسه وعرض علي العمل معه في فيلم الناصر صلاح الدين وأخبرني أن تصويره سيستغرق عامين وأنني إذا صبرت وقاومت ورفضت العروض السينمائية التي ستعرض علي فسيقوم برعايتي سينمائيا ويتولي أمري, لكن أثناء التصوير.. عرض علي تمثيل فيلم يوم بلا غد أمام فريد الأطرش, وفي منزله تعرفت علي فايزة أحمد ثم تزوجنا عام1963 لكنني لحنت لها قبل الزواج بعض الأغاني أشهرها, أمر يا قمر أمرك ماشي وتوالت أعمالنا الثنائية التي بلغت250 عملا لفايزة وحدها من مجمل ألحاني التي تقترب من600 لحنا منها ألحان لليلي مراد وصباح وكارم محمود وسعاد محمد ومها صبري وماهر العطار وسوزان عطية.
اكتشفت العديد من الموسيقيين والمطربين أشهرهم عمر خورشيد ومجدي الحسيني وسميرة سعيد وهاني شاكر ونادية مصطفي وأسهمت في مسيرتهم الفنية في بداية الطريق مثل ميادة الحناوي وأصالة ومحمد ثروت فما هو أسلوبك في تقديم المواهب الجديدة ؟
إذا كانت الموسيقي الشرقية لها شخصيتها ومغرقة في المحلية شأن الموسيقي الهندية واليونانية فهما لذلك عالميتان.. فالموسيقي العربية الأصيلة التي تتمتع بالبساطة وصدق الأداء كفيلة بالوصول للعالمية.. دون حاجة لدواعي التغريب, لأن السلم الموسيقي عالميا, فالخامة واحدة لكن العبرة بمدي ملاءمة اللحن لقومية مستمعيه, وحين نلجأ للموسيقي الغربية يصبحون هم( الأصل) ونحن التقليد فأنا حين استمعت لعمر خورشيد بالصدفة أثناء تناولي للعشاء مع فايزة أحمد في أحد الملاهي طلبت من الجرسون دعوته للجلوس معنا, وحدث التعارف وسألته إذا كان يرغب في الالتحاق بالفرقة الماسية فطار من الفرح, وقال إنه حلم حياته وشاءت الأقدار أن أتعرف علي مجدي الحسيني وقدمتهما للمرة الأولي علي المسرح معي في أغنية خليكوا شاهدين لفايزة أحمد, وكلاهما أصبح علما يشار له بالبنان في مجاله.. أما سميرة سعيد فقد تعرفت عليها أنا وفايزة في حفل عيد ميلاد الحسن الثاني ملك المغرب حيث طلب مني الاعتناء بها ومساعدتها فنيا بالألحان, فأخبرته فايزة أننا سنصحبها معنا إلي القاهرة وبالفعل جاءت إلي منزلنا وأقامت معنا في بداية حياتها الفنية وقمت بالتلحين لها فيما يتعلق بنادية مصطفي فلم أتعجل التلحين لها وطلبت منها التريث لكي أظهرها بالشكل المناسب وأستغرق الأمر عاما قبل تقديم أغنيتها الأولي التي مازالت تشتهر بها وتحمل اسمها( مسافات) وكل مطرب وصاحب موهبة له حكاية والعبرة في تقديم أي موهبة جديدة أن تكون متميزة للغاية.. لا تشبه أحدا ممن يصلون ويجولون علي الساحة ولابد أن تتحلي بالذكاء فالموهبة يحميها الذكاء والمطرب الذكي يعرف متي وأين وكيف وماذا يغني؟ وأهم شيء بالنسبة للملحن المقتدر أن يقوم بوضعها في الثوب واللون المناسب لها بصورة تجعلها متفردة, وفيما يتعلق بهاني شاكر يبتسم الموسيقار محمد سلطان ويقول فله قصة مختلفة.
هل انتقد عبد الحليم حافظ أغنيته سيبوني أحب التي قمت بتلحينها له؟
نعم إذ إن هاني شاكر كان قد وقع عقدا مع شركة صوت الحب, وفي إحدي المرات صحبه الشاعر الكبير مأمون الشناوي لزيارة الأستاذ عبد الوهاب لإعطائه دفعة للأمام بعد أن لحن له الموجي أغنية حلوة يادينا, فقال عبد الوهاب لمأمون الشناوي إذا كنت تريد عملا بروح جديدة لهذا المطرب فاذهب فورا إلي منزل محمد سلطان وسأخبره تليفونيا بالموضوع أثناء ذهابكما, وأثناء, حديثه التليفوني معي قال لي: أريدك أن تصنع له لحنا مميزا للغاية وافترض ياسيدي أن هناك من سيحاربه وهو يستنجد بالناس ولعله يقول مثلا: سيبوني أحب.. سيبوني أغني, وانتهت المكالمة وعلقت كلمة سيبوني في ذهني فاتصلت بمجدي نجيب وأوحيت له بالمعاني والخواطر ومحورها سيبوني, وكانت فايزة تقف بجواري وأنا أتحدث مع عبد الوهاب وهي تعرفه كفنان جيدا وأنا اعرفه كإنسان قبلها فضحكت وقالت أنه يريد إثارة عبد الحليم حافظ فكانت تدرك ذكاء وحرب الوسط الفني, وأوضحت لي رؤيتها: فعبد الوهاب كقامة فنية من المفترض ألا يطاولها أحد لكن عبد الحليم بموهبته الجبارة كان يصطدم برأسه.. لذلك فهو يريد شخصا آخر يخبط دماغه في عبد الحليم وليتفرج هو لأن عبد الوهاب ككيان فني أكبر من ذلك ولا ينافسه أحد. ولكن في النهاية عبد الحليم ظل هو, عبد الحليم إلي يومنا هذا وذهب الجميع كل في طريق.
ما الذي يجمع بين أصحاب المواهب الفذة فنيا.. وكيف كانت علاقتك بعمالقة جيلك من الملحنين؟
كبار الفنانين والمبدعين مواهبهم طاغية, وكل منهم يحمل بصمة مميزة, تدفعهم مواهبهم للعمل والمثابرة وغزارة الإنتاج أي الاستمرار ودوام البحث عن الجديد ومعظمهم متواضعون, لأن الفنان إذا شعر بأنه وصل للقمة تحجر ولا يقدم علي أي جديد, وأنا شخصيا لم تستهوني متعة تكرار ألحاني الناجحة, وكنت في كل مرة أحرص علي ارتياد آفاق جديدة لم يبلغها أحد فالموهبة عطية من الخالق وفي أسماء الله الحسني الوهاب ثم الرازق فالله يوهبنا لكي يرزقنا أيا كان عطاؤه, فيما يتعلق بعلاقتي بزملاتي من الملحنين يكفي أن تعلمي أن بليغ حمدي حينما علم بمرضي أثناء محنته ومنعه من دخول مصر كان يواصل الاتصال بي يوميا ويحذرني من عدم مغادرة مصر التي كان يعشقها وكمال الطويل كان يستيقظ أحيانا مبكرا وبعد وفاه فايزة أفاجأ به يوقظني من النوم ونتناول إفطارنا معا, أنه جيل رائع إنسانيا ومهنيا من الصعب أن يتكرر, ويسعدني أنني كنت اصغر منهم قليلا في السن لكنني اثبت وجودي وسط هؤلاء العمالقة عبد الوهاب وفريد الأطرش والسنباطي والموجي ومحمود الشريف ومنير مراد ومحمد فوزي, وهذا مقياس لنجاحي لأنني لو ظهرت والساحة خالية فلا يعد ذلك انجازا فنيا.
كيف أصبحت علاقتك بعبد الوهاب بعد أن نضجت فنيا.. وهل كان هو معلمك الأوحد أو كما يقال لا يوجد مريد بين شيخين, وماذا تعلمت من هذا العملاق الذي تتلمذ أيضا علي يد أمير الشعراء أحمد شوقي؟
عبد الوهاب كان أبا فنيا بالنسبة لي وهو قدوتي الأولي, والإنسان الذي ليس له قدوة ليس أمامه مستقبل, فأنا دفنت عبد الوهاب بيدي حين لم يحضر أحد من أفراد عائلته لسبب أو لآخر, وتتبعت سيارة الإسعاف من مسجد آل رشدان إلي مقابره بالمجاورين, ومكثت نصف ساعة مع( التربي), ثم قال لي: إكرام الميت دفنه ألست ابنه؟ قلت له نعم وقرآنا القرآن وأودعته في مستقره الأخير, رحمه الله كان فنانا قلما يجود بمثله الزمان, وقد تعلم من أحمد شوقي ثقافة حياتية وكان يحرص علي صحته ووقته وفنه وينصحني بألا أضيع وقتي بالجلوس مع أي أحد, فالناس من وجهة نظره مثل الأواني المستطرقة لابد أن يحدث توازن بينهم, نأخذ ونعطي والشخص التافه يبدد الوقت, فالإبداع لديه كان حالة عامة تتمثل في الهواء النقي والمناظر الجميلة وكان يحرص علي مجاراة العصر في إطار الحدود السليمة, إضافة إلي امتلاكه حاسة نقدية سمحت له بتجويد أعماله وتسجيل ملاحظات علي كل معاصريه وأن كان لا يجب الإفصاح عن أرائه علي الملأ حرصا علي مصالحه الخاصة, امتدح ألحاني فيما بيننا- وكثيرا ما فعل ذلك ووصف بعضها بأنها نقلة موسيقية للأمام وأنني سبقت عصري في أغنيات: دنيا جديدة وعلي وش القمر, وخليكوا شاهدين, وكان يعتبرني بمثابة امتداد فني له, ولكن من أسوأ ما ورثته منه عن غير عمد طابع الوسوسة الفنية وشعوري بالقلق والخوف من عدم نجاح اللحن الجديد.
قال موتسارت إنه كان يستمع أحيانا إلي ألحان سيمفونية كاملة في ذهنه قبل أن يقوم بتدوينها.. وبيتهوفن كان أصما.. فهل التلحين موهبة تعتمد علي الإلهام بصورة أكبر من الفنون الأخري؟
التلحين الموسيقي إلهام وتكنيك يتقنه الإنسان ولكن الإلهام والحدس المفاجئ الذي يباغت المبدع له قصة مع كل ملحن, فكثيرا ما كانت فايزة أحمد توقظني من النوم لأنني كنت أدندن وتقول: اصح يا محمد اشتغل. دماغك فيها مزيكا وخواطر داخلية مشتعلة, وبالفعل استيقظ ويبدأ الوعي في ترتيب الأفكار والجمل اللحنية بصورة سليمة.. والمفارقة في التلحين أنه موهبة تعتمد علي نبض المشاعر والأحاسيس, ولكنها عملية حسابية علي الورق أثناء تدوينها وتمرس الملحن واقتداره هو الذي يرفع هذا التناقض الظاهري.
بصفتك رئيسا لجمعية الملحنين والمؤلفين ما هي أكبر العقبات التي تواجه المبدع في الوقت الحالي وما هي طموحاتك في هذا الصدد؟
المبدعون مظلومون في العالم العربي, فالمبدع أي المؤلف والملحن لابد أن يأتي قبل المطرب لأن قمم الغناء والطرب لا قيمة لها بدونه فالمطرب عفوا ليس كل شئ في الغناء, فعدد أعضاء الجمعية1300 عضو وحقوق الأداء يحكمها القانون الدولي, لكننا نعاني من عدم الالتزام بدفع حقوق الأداء, بل إن اتحاد الإذاعة والتليفزيون يدفع فقط400 ألف جنيه لكل المبدعين وبعض الفضائيات لا تلتزم, فلابد من رفع وعي الجماهير بقدر المبدع والحرص علي ذكر اسم المؤلف والملحن في كل وسائل الإعلام وأنا أترقب الأحوال بتريث بعد ثورة يناير وأتعشم أن تسير الأمور في بلادنا بصورة سليمة دون الجور علي حقوق الآخرين, وأتمني أن يتغير المناخ العام لأن المتلقين من أبناء الجيل الحالي درجة استيعابهم للموسيقي الجيدة محدودة جدا, فهل يعقل أن كل الأغاني من مقام الكرد لأنه ليس به ربع تون؟ بالرغم من أنني استعمله لكن بصورة صحيحة, ولابد أن نتذكر دائما أننا أخذنا ريادتنا في العالم العربي من الغناء والفن أولا, وكانت أم كلثوم هي القادرة الوحيدة علي تجميع كل العرب علي شيء واحد دون خلاف.
تزوجت فايزة أحمد( كروان الشرق) وهي فنانة استثنائية جدا فما هي دخائل شخصيتها خاصة أنها عانت في طفولتها, وصرحت يوما أنها اضطرت للغناء في إحدي المرات من أجل قطعة شيكولاتة وليرة لبنانية وماذا عن علاقتكما الفنية؟
هي بالفعل فنانة استثنائية جدا لم أر في حياتي من يعشق الغناء علي الدوام مثلها, كان الغناء هو الشريان الذي يربطها بالحياة, وقبل وفاتها بساعات غنت لي أغنية ايوه تعبني هواك ثم بكت وقالت أنا تعبت وتمكن مني المرض, وهي للعلم لبنانية من مواليد صيدا وليست سورية, تزوجت عمر نعامي السوري والد ابنتها فريال, ثم مختار العابد وأنجبت منه اكرم وأماني, وحصلت من خلاله علي الجنسية السورية, وحين تزوجتني عام1963 حصلت علي الجنسية المصرية وأنجبنا توءمان عمرو وطارق ويعملان طبيبين الآن في فرنسا, ففايزة انفصل والدها عن والدتها وهي طفلة صغيرة واضطرت للغناء وهي في الثامنة من عمرها, وفي العاشرة كانت تقف علي خشبة المشرح وتتقاضي أجرا لمساعدة والدتها وأشقائها, لذلك كانت حنونة جدا لديها إحساس مرهف ودفء حقيقي غير مصطنع, تتصف بالكرم الشديد.. البساطة والتلقائية من أبرز صفاتها. يسكنها إيمان عميق, فكانت تصلي وهي علي فراش مرضها الأخير وتقرأ القرآن, وهي بطبيعتها تحب منزلها وقد لا تغادره إذا لم يتطلب الأمر ذلك. وقد ساعدها ذكاؤها الحاد في تألق موهبتها, وأذكر أنها كانت تتلصص علي غرفتي حين أنفرد بتلحين أغنية لها وتسترق السمع وحين أفرغ من المذهب وأطلب منها الحضور لسماعه, لان الملحن الجيد يدرك جيدا خامة الصوت وأبعاد القوة ومداها للمطرب الذي سيؤدي لحنه كانت تفاجئني قائلة: خلاص أنا حفظته, ثم تعيده أمامي, كان بيننا( هارمونية) في المشاعر ومعايشة فنية, وفايزة امرأة تحب وتغني بكل جوارحها ولا تعرف أنصاف الحلول أذكر أن حرارتها بلغت الأربعين حين أصيبت بإنفلونزا حادة في الشتاء وطلب الطبيب إلغاء حفلتها في المساء وإلا تعرضت لالتهاب رئوي, ولكن بمجرد أن سألها المتعهد هل يرد ثمن التذاكر للجمهور كما طلبت أنا منه. بكت بحرقة وقالت أنا سليمة, وبعد أن انتهت من الغناء وعدنا إلي المنزل قالت لي: أنا لست مريضة كانت الماديات آخر ما يعنيها وكثيرا ما قدمت هي وعبد الحليم حافظ حفلات خصيصا لمساعدة أحد المتعاهدين حبا منهم في الغناء ولو بدون مقابل. كانت أم كلثوم تعشق صوتها وتتصل بها بعد حفلاتها ووصفتها بأنها من أجمل الأصوات النسائية العربية.
هل كانت بارعة حقا في التقليد وقد عرف عنها خفة الظل في الوسط الفني؟
يبتسم ويقول: لبلبة كانت تسألها كثيرا عن الأسلوب الأمثل لتقليد بعض الشخصيات, ويمكنك سؤالها. وأذكر أن الفنانة الكبيرة وردة كانت مدعوة مع بعض الأصدقاء في منزلنا طلبوا منها الغناء, لكنها رفضت لأنها تعرف شقاوة فايزة في التقليد وهي تدرك يقينا تقدير فايزة لموهبتها. وكثيرا ما كانت تقوم بتقليد وردة أمام عبد الوهاب ويموت من الضحك, وكانت تجيد أيضا تقليد فيروز وأسمهان, وبالمناسبة أن فيروز وقفت في بدايتها في كورال فايزة أحمد في لبنان وموهبة التقليد لديها كانت تعتمد علي التقاط أي شيءover في الأداء, وفايزة وعبد الحليم كانا أشيك أداء في الوسط الغنائي بالفعل وفي إحدي المرات طلب منها عبد الوهاب تقليده فقالت: ربما غضبت يا أستاذ! فاندهش عبد الوهاب وقال لها هذا يعني أن أدائي به بعض العيوب, وصرحت له بانتقادها( للنحنحة) فالعرف أثناء التسجيل أن لا يوجد دوي لإبرة في الأستوديو وسألته هل يعود ذلك للفت نظر المعجبات فضحك كثيرا وقال لها يخرب عقلك يا فايزة.
كيف كانت علاقتكما بالرئيس السادات ولماذا أغلق الستار عليها أثناء غنائها أمامه في إحدي المناسبات الوطنية؟
فايزة كانت تلقائية جدا أذكر أنها كانت تتحدث في إحدي المرات مع ملك المغرب وفوجئت بها تقول له: أنت موهوب موسيقيا لكن لا تعرف المقام كذا, فقلت لها أمامه أسمها جلالتك يا فايزة, فضحك وقال أتركها كان الله في عونك يا سلطان, والأمر كذلك مع الرئيس السادات الذي كان يعشق صوتها, وفي إحدي المرات اتصل بي مكتبه وأوصلني به واتفقنا علي اللقاء في اليوم التالي في استراحة القناطر وسألني في لهفة هل احضرت العود معك كما طلبت منك؟ قلت نعم., وطلب مني عزف أغنية العيون الكواحل سابوني آه آه ولذيذ المنام حرموني يا رفاقي ساعدوني وهي أغنية استلهمها مجدي نجيب من التراث وبصوته الأجش غناها وكان راكزا علي المقام تماما مثل أي محترف, وأخبرني أنه يحفظ كل الأغاني الصعبة وأنه مبسوط مني لأنني استطعت الوقوف بصوت فايزة بألحاني أمام كل الملحنين, فأنا من وجهة نظره مكافح مثله! واتفقنا علي إعداد أوبريت مصر بلدنا فيما يتعلق بواقعة فايزة فكانت تغني وشعروا بأنها أطالت بعض الوقت وكان هناك بعض المطربين الذين سيعتلون بعدها المسرح فقاموا بإغلاق الستار وهي لم تنه الأغنية فما كان منها إلا أن خرجت وقالت بكبرياء هل يرضيك ياريس أن يغلق الستار علي فايزة أحمد؟ ففتح الستار وأكملت الغناء وتعمدت الإطالة ثأرا لكرامتها, فكانت عنيدة لا تترك حقها.. رحمها الله فمازلنا نقتات من هذا الفن الجميل الذي كان فنا صحيحا بحق.. لذلك عاش لأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح.





المصدر : الاهرام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق