مرارة الاحتلال التي لمحها ببراءة عيني طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره، روت إبداعه بلهيب الحسرة والآلام، وتألق أشجار الأرز وإبداع ملكوت الله في أراضي لبنان التي نزح إليها بعد نكبة فلسطين، أشبع خياله بالحب والهيام. محمود درويش، الذي تغني بأشعاره كبار الفنانين وخلدت أعماله لغات العالم.
عاد درويش بعد رغد العيش محملا بالأوجاع، آملا في الاستقرار بعد توقيع اتفاقية الهدنة، متشبثا بوطنه "وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافرا"، ليجد قرية "البروة" التي شهدت ميلاده عام 1941 محملة بعرق الأعداء ومسك الشهداء. استكمل مسيرته النضرة، وأنهى تعليمه الثانوي في مدرسة يني بقريته الجديدة، فانشغل عقله بعد تعلق قلبه ببلاده التي نُصِّبَ بها "شاعر فلسطين"، وانضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي في فلسطين، وعمل محررا ومترجما في صحيفة "الاتحاد" ومجلة "الجديد" التابعتين للحزب، وأصبح فيما بعد مشرفا على تحرير المجلة كيف أقول أحبك.. وعينيك معجزتان.. ومن أين أجمع صوت الجهات لأصرخ أني أحبك".
لم تخلُ حياته من عبء السياسة، فاعتقلته السلطات الإسرائيلية أكثر من مرة منذ 1961 بسبب نشاطاته وتصريحاته، وفي عام 1972 توجه إلى موسكو ومنها للقاهرة، وانتقل بعد ذلك إلى لبنان حيث ترأَّس مركز الأبحاث الفلسطينية، وشغل منصب رئيس تحرير مجلة "شؤون فلسطينية" ورئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وأسس مجلة "الكرمل" الثقافية في بيروت عام 1981.
توج محمود درويش المرأة على ربيع أعماله ودللها برقة كلماته "من رموش العين سوف أخيط منديلا وأنقش فوفه شعرا لعينيك"، وغازل أوطانه بعذوبه إحساسه "إنني العاشق والأرض حبيبة"، واحتلت الأم في نفسه مكانة العظماء والعشاق بحنينه الدائم لها "أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي.. وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي".
بتراكيبه الشعرية في أدغال اللغة، ألف العديد من الدواوين التي تم ترجمتها إلى لغات عدة، منها "عصافير بلا أجنحة" و"أوراق الزيتون" و"عشاق من فلسطين"، وتفننت الكلمات في وصف أحلامه الممزوجة بأوجاعه، فأبدع في وصفها في "أثر الفراشة": "أثر الفراشة لا يُرى.. أثر الفراشة لا يزول.. يستدرج المعنى وترحل".
لم يهزمه المرض برغم تعرضه لأزمة قلبية جعلته طريح الفراش، فأبدع أهم قصائده "جدارية"، التي أثارت التساؤلات والشكوك، لمحاورته الموت وملك الموت، ليعود بعد نجاحها إلى نضارة الحياة "لا شيء يوجعني على باب القيامة.. لا الزمان ولا العواطف.. ولا أحس بخفة الأشياء أو ثقل الهواجس".
في التاسع من أغسطس 2008، فارق درويش الحياة، لكن ظلَّت أعماله تنير سماء الشعر والشعراء، ومرجعا للأدباء، فاجتمع الفرقاء في السياسة والثقافة ليعزوا شاعريته الفذة وكلماته العذبة، وفي الذكرى الخامسة لوفاته جاءت أعماله لتحيي رحيله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق