السبت، 3 أغسطس 2013

أبو تراب النخشبى.. العارف المتوكل الذى رأى موته

واحد من العلامات المضيئة فى تاريخ التصوف، كتب العلم وتفقه فى الدين، وساح وتجرّد، وتتلمذ عليه أكابر الصوفية، بعد أن لزم الباب ولم يشغل نفسه إلا برب الأرباب، فصار من المتفق عليهم بين المتصوفة المحتفين بعالم الكرامات والزهد والتوكل وبين «أهل الأثر» أو «أهل الحديث» المهتمين بالرواية ويرون أنفسهم أنهم على مذهب «أهل السنة والجماعة». لم يترك كتباً ولا مؤلفات يشار إليها بالبنان كبعض المتصوفة، لا سيما من مالوا إلى الفلسفة منهم، بل ترك أفعالاً تناقلها الناس ونسبوها إليه، بعضها ينطوى على حكم سابغة، وأخرى تظهر كرامات الرجل وبركاته، وهذا وذاك يدلان على أن أبا تراب لم يمر على الدنيا من دون أن يترك وراءه علامة.
هو أبو تراب عسكر بن حصين النخشبى، من أعلام التصوف فى القرن الثالث الهجرى. ولد فى نواح بلخ بمدينة نخشب التى تحول اسمها إلى نسف فيما بعد، وهى مسقط رأس الإمام النسفى، وتقع اليوم فى أوزبكستان حاليا. وروى الحديث عن بعض سابقيه، وروى عنه لاحقوه، وقد تفقه على مذهب الإمام الشافعى وأخذ عنه الإمام أحمد بن حنبل.
شهد له كثيرون، فوصفه الذهبى بأنه «الإمام القدوة شيخ الطائفة»، وقال عنه أبوعبدالرحمن السلمى فى طبقاته الشهيرة إنه «من جلة مشايخ خراسان والمذكورين بالعلم والفتوة والتوكل والزهد والورع»، أما ابن الجلاء فيقول: «صحبت ستمائة شيخ، ما لقيت فيهم مثل أربعة؛ أولهم أبو تراب النخشبى»، وهناك رواية أخرى تصل بهذا العدد إلى ألف شيخ، والرقمان يدلان على مكانة النخشبى بين الزهاد والعباد والصالحين.
كان صارماً فى زهده إلى حد بعيد، من دون تكلف ولا ادعاء، إنما كان هذا هو طبعه ومسلكه. ويسرد لنا السبكى فى طبقاته حكاية تبرهن على استغنائه وتعففه، حيث يروى أن أبا تراب مرّ بمُزيِّن فقال له: «تحلق رأساً لله عز وجل»، فوافق المزين وأجلسه وراح يحلق رأسه، وكان أمير البلد يمر قريبا منه فقال لبعض حاشيته: أليس هذا أبا تراب؟ فقالوا: نعم. فقال: إيش معكم من الدنانير؟ فقال له رجل من خاصته: معى كيس به ألف دينار. فقال: إذا قام فأعطه إياها واعتذر إليه وقل له: لم يكن معنا غير هذه. فذهب الرجل بالدنانير وقال لأبى تراب: الأمير يقرأ عليك السلام ويبعث إليك بهذه الألف دينار ويقول لك: ما حضر معنا غير هذه. فقال له أبو تراب: ادفعها إلى المزيِّن. فقال المزين: إيش أعمل بها؟ فقال أبو تراب: خذها لك. فرفض المزين أن يأخذها، فقال أبو تراب لرسول الأمير: «ارجع بها إليه وقل له إن المزين ما رضى أن يأخذها، فخذها أنت فاصرفها فى مهماتك».
ويروى يوسف بن الحسين حكاية تصب فى الاتجاه نفسه، حيث قال: كنا بمكة، فقال أبو تراب: «أحتاج إلى دراهم»، فإذا برجل قد صبَّ فى حجره كيس دراهم، فجعل يُفَرِّقُها على من حوله، وكان فيهم فقير يتراءى له ليعطيه، فنفدت، ولم يعطه، وبقيت أنا وهو والشيخ، فقال له: تراءيت لك غير مرة، فقال: «أنت لا تعرف المعطى». وفى هذا ما يشير أيضاًً إلى أن أبا تراب كان يفهم أن المال لله تعالى، وأن البشر مجرد وكلاء، وأن ما يعطونه أو يمنحونه إنما هو تنفيذ لمشيئة الله حين يريد سبحانه أن يجعلهم سبباً لرزق أحد من عباده.
وكان الزهد مرتبطاً عند أبى تراب بمجاهدة النفس ونهيها عن شهوات الدنيا وملذاتها، حتى ولو كانت قليلة أو ضئيلة، فها هو يقول: «ما تمنت علىّ نفسى شيئاً إلا مرة؛ تمنت على خبزاً وبيضاً، وأنا فى سفر؛ فعدلت إلى قرية فلما دخلتها تعلقوا بى وقالوا هذا من اللصوص؛ فبطحونى وضربونى سبعين جلدة، فصاح بهم رجل وقال: هذا أبو تراب الزاهد. فأقامونى واعتذروا إلى، وأدخلنى ذلك الرجل بيته، وقدم لى خبزاً وبيضاً من غير مواطأة، فقلت: كُلْ بعد سبعين جلدة!».
وبالقطع ليس الخبز والبيض بالشىء النادر ولا الغالى ولا الذى تشتهيه نفس عوام الناس، الذين يأكلونه كل يوم تقريبا، لكن عند أبى تراب فالأمر مختلف، لأنه عوّد نفسه ألا تشتهى شيئا حتى لو كان رخيصا ووافرا وتتداوله الأيادى بلا اكتراث.
ويُحكى عن أبى جعفر الحداد قال: «رآنى أبو تراب النخشبى، وأنا فى البادية جالس على بركة ماء، ولى ستة عشر يوما لم آكل ولم أشرب، فقال لى: ما جلوسك؟ فقلت: أنا بين العلم واليقين أنتظر ما يغلب فأكون معه، يعنى: إن غلب على العلم شربت، وإن غلب اليقين مررت. فقال: لى: سيكون لك شأن». وهذه الرواية تبين إيمان أبى تراب بأن الجوع يصفى الروح، وينقل الإنسان من مقام إلى مقام، وربما به يوهب الله حالا لعبده يتمنى أن يناله.
وسلم أبو تراب أمره إلى ربه، فاستغنى به عن العالمين. وفى هذا سأله رجل ذات يوم: ألك حاجة؟ فقال له أبو تراب: «يوم يكون لى إليك وإلى أمثالك حاجة لا يكون لى إلى الله حاجة». وطالما ردد قول حاتم الأصم: «للزاهد ثلاث شرائع: أولها الصبر بالمعرفة، والاستقامة على التوكل، والرضا بالقضاء». وكان يقول: «الذى منع الصادقين الشكوى إلى غير الله الخوف من الله». وكان يرى أن «حقيقة الغنى أن تستغنى عمن هو مثلك، وحقيقة الفقر أن تفتقر إلى من هو مثلك». كما اعتبر أن الصوفى الحقيقى يكون «قوته ما وجده، ولباسه ما ستره، ومسكنه حيث نزل». وكان يقول، حسب رواية الحسن بن علوبة: «ليس ينال الرضا من للدنيا فى قلبه مقدار»، وهنا ترك الأمر مفتوحا، ليضع كل فرد المقدار الذى يريد أو يتمنى من دنياه؛ فهناك من يحب المال، وهناك من يشتهى النساء، وهناك من يتلذذ بأطيب الطعام، وهناك من يود أن يلبس أفخر الثياب، ويقطن أفخم المنازل، وهناك من يعبدالمنصب والجاه والشهرة، وكل هؤلاء عند أبى تراب لا يمكنهم أن ينالوا الرضا.
وكان زهده كذلك متواشجاً مع ورعه وتحسبه ومراقبته لله فى كل كبيرة وصغيرة، حيث كان يقول: «بينى وبين الله عهد ألا أمد يدى إلى حرام إلا قصرت يدى عنه». ويذكر القشيرى فى رسالته حكاية تعزز هذا، حيث نظر أبو تراب يوما إلى صوفى من تلامذته قد مد يده إلى قشر البطيخ، وقد طوى ثلاثة أيام، فقال له أبو تراب: «تمد يدك إلى قشر البطيخ؟! أنت لا يصلح لك التصوف، الزم السوق»، وفى هذا ما يبين أن أبا تراب رأى أن اشتهاء أى شىء، حتى لو كان قليلا وتافهاً، يضر بيقين المتصوف وثباته.
وسمعه إسماعيل بن نجيد يقول لأصحابه: «من لبس منكم مرقعة فقد سأل، ومن قعد فى خانقاه أو مسجد فقد سأل، ومن قرأ القرآن من مصحف أو كيما يسمع الناس فقد سأل»، وبهذا لا يقر أبو تراب أن يمد أهل التصوف أياديهم للناس سائلين العون على الحياة، ومتكلين على غيرهم من العباد فى تدبير ما يبقيهم على قيدها، متخذين لبس المرقع أو الجلوس فى التكايا والزوايا والمساجد أو قراءة القرآن على قوارع الطرق وسيلة لجذب انتباه العابرين فيعطونهم.
ومن محاسبة أبى تراب لنفسه والتزامه الورع أنه كان يجدد توبته إلى الله إن وجد فى أصحابه ما يكرهه، ويقول: بشؤمى دفعوا إلى ما دفعوا إليه، لأن الله (عز وجل) يقول: «إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ».
ونسبت إليه أفعال تنطوى على كرامات جلية، فها هو أبوالعباس الرقى يقول: كنا مع أبى تُراب النخشبى فى طريق مكة، فعدل عن الطريق إلى ناحية، فقال له بعض أصحابه: أنا عطشان. فضرب برجله فإذا عينٌ من ماء زُلال، فقال الفتى: أحب أن أشربه فى قدح. فضرب بيده الأرض فناوله قدحاً من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت، فشرب وسقانى، وما زال القدح معنا إلى مكة.
ثم يكمل الرقى: فقال لى أبو تراب: ما يقول أصحابك فى هذه الأمور التى يكرم الله بها عباده؟ فقلت: ما رأيت أحداً إلا وهو مؤمن بها. فقال: إنما سألتك من طريق الأحوال! فقلت: ما أعرف لهم قولاً فيه. فقال: بلى، قد زعم أصحابك أنها خِدع من الحق، وليس الأمر كذلك، لأنما الخدع فى حال السكون إليها، فأما من لم يقترف ذلك فتلك مرتبة الربانيين».
ويروى يوسف بن الحسين حكاية أخرى من كرامات هذا الولى الصالح، قائلا: صحبت أبا تراب النخشبى خمس سنين، وحججت معه على غير طريق الجادّة، ورأيت منه فى السفر عجائب يقصر لسانى عن شرح جميعها، غير أنا كنا مارِّين، فنظر إلىّ يوماً وأنا جائع وقد تورّمت رجلاى، وأنا أمشى بجهد، فقال لى: ما لك، لعلك جعت؟ قلت: نعم، قال: ولعلك أسأت الظن بربك؟! قلت: نعم، قال: ارجع إلى ربِّك. قلت: وأين هو؟ قال: حيث خلّفته، فقلت: هو معى. فقال: إن كنت صادقاً فما هذا الهمُّ الذى رأى عليك؟ قال: فرأيت الورم قد سكن، والجوع قد ذهب، ونشطت حتى كِدتُ أسبقه. قال أبو تراب: اللهم إن عبدك قد أقرّ لك فأطعمه، ونحن بين جبال ليس فيها مخلوق، فانتهينا إلى رابية، فإذا كوز ماء ورغيفٌ موضوع، فقال لى أبوتراب: دونَك دونَك. فجلست وأكلت وقلت له: ليش ما تأكل أنت؟ قال: يأكل من اشتهاه».
وكان أبو تراب ممن تطوى لهم الأرض، وهنا قال أبوعبدالله الجلاء: قدم أبو تراب مرة إلى مكة فقلت له: يا أستاذ أين أكلت؟ قال: جئتَ بفضولك؟ أكلت أكلة بالبصرة، وأكلت بالنباج، وأكلة عندكم. ويورد البعض هذه الحكاية للبرهنة على احتفاء أبى تراب بالجوع كى تصفو نفسه، لكنها هنا تدل على أن الرجل قد قطع كل هذه المسافة فى يوم تقريبا، تناول فيه ثلاث وجبات، مع أنها تستغرق أكثر من شهر.
ويحكى محمد بن يوسف البناء: سافرت سنة مع أبى تراب، وكان معه أربعون نفسا، ثم أصابتنا فاقة، فعدل أبو تراب عن الطريق، وجاء بعذق موز فتناولنا، وفينا شاب فلم يأكل، فقال له أبوتراب: كل. فقال: الحال الذى اعتقدته ترك المعلومات وصرت أنت معلومى، فلا أصحبك بعد هذا. فقال له أبو تراب: كن مع ما وقع لك. وقد أورد القشيرى هذه الحكاية فى رسالته لتقديم الدليل على بركات وكرامات النخشبى.
وكان أبو تراب عاقلا ذا ذهن صاف ونفس واثقة، يتمهل قبل أن يحكم على أى أمر إذا كان حقا أو باطلا، صوابا أو خاطئا، وقدم هنا مقولة تنطوى على حكمة سابغة ونهج علمى واضح، لأن من سمات التفكير العلمى أنه نسبى، وفى هذا المقام يوصى أبو تراب أحد مريديه: «احفظ منى خصالاً؛ أول خصلة: أن تحفظ الحق ولا يكون الحق حقاً إلا بالإجماع، فإذا أجمع الناس وقالوا إن هذا الحق تعمل به، ولا يكون الباطل باطلاً إلا بالإجماع، فإذا أجمعوا وقالوا إن هذا باطلاً تركت هذا الباطل خوفاً من الله (تعالى)، فإذا كنت لا تعلم هذا الشىء حق أو باطل فينبغى لك أن تقف حتى تعلم».
وسجل مؤرخو الصوفية فى كتاباتهم أقوالا عديدة منسوبة إلى أبى تراب النخشبى، تنطوى رغم بساطتها على حكم سابغة وألوان مأثورة من الكلام، وذلك فى تصنيفها شكلا، أما مضمونها فيبين أن صاحبها قد استبحر فى التصوف إلى مدى بعيد. ومن هذه الأقوال:
«الناس يحبون ثلاثة وليست لهم: النفس والروح، هما لله، والمال وهو للورثة. ويطلبون اثنين ولا يجدونهما: الفرح والراحة، وهما فى الجنة».
«إذا تواترت على أحدكم النعم فليبك على نفسه، فقد سلك به غير طريق الصالحين».
«لا أعلم شيئاً أضر على المريدين من أسفارهم على متابعة قلوبهم ونفوسهم، وما فسد من فسد من المريدين إلا بالأسفار الباطلة».
«أشرف القلوب قلب حى بنور الفهم عن الله».
«اصحب الناس كما تصحب النار، خذ منفعتها واحذر أن تحرقك».
«إذا رأيت الصوفى قد سافر بلا ركوة، فاعلم أنه قد عزم على ترك الصلاة».
«إذا ألفت القلوب الإعراض عن الله (عز وجل) صحبتها الوقيعة فى الأولياء».
«ثلاثة من مناقب الإيمان: الاستعداد للموت، والرضا بالكفاف، والتفويض إلى الله. وثلاث من مناقب الكفر: طول الغفلة عن الله، والطيرة، والحسد».
سُئل عن العارف، فقال: «الذى لا يكدره شىء، ويصفو به كل شىء».
«إذا صدق العبد فى العمل وجد حلاوته قبل أن يعمله، فإذا أخلص فيه وجد حلاوته ولذته وقت مباشرة الفعل».
«لو أن رجلاً عاش مائتى سنة ولا يعرف هذه الأربعة أشياء لم ينج من النار؛ أحدها معرفة الله، وثانيها معرفة نفسه، وثالثها معرفة أمر الله ونهيه، ورابعها معرفة عدو الله وعدو نفسه».‏‏
وأنشد أبو تراب ذات يوم:
لا تخدعن فللحبيب دلائلُ
ولديه من تحف الحبيب وسائلُ
منها تَنَعُّمُهُ بِمُرِّ بلائه
وسرورُه فى كل ما هو فاعلُ
فالمنع منه عطية مقبولةٌ
والفقر إكرام وبرٌّ عاجلُ
ومن الدلائل أن ترى من عزمه
طوع الحبيب وإن ألح العاذل
ومن الدلائل أن يرى متبسِّما
والقلب فيه من الحبيب بلابل
ومن الدلائل أن يرى متفهما
لكلام من يحظى لديه السائل
ومن الدلائل أن يرى متقشفا
متحفظا من كل ما هو قائل
وقد رأى أبو تراب موته قبل رحيله بأربعين يوما، فها هو يقول: «وقفت ستا وخمسين وقفة، فلما كان من قابل رأيت الناس بعرفات ما رأيت قط أكثر منهم ولا أكثر خشوعا وتضرعا ودعاء، فأعجبنى ذلك وقلت: اللهم من لم تتقبل حجته من هذا الخلق فاجعل ثواب حجتى له. فأفضنا وبتنا بجمع فرأيت فى منامى هاتفا يهتف بى: تتسخى علىّ وأنا أسخى الأسخياء؟ وعزتى وجلالى ما وقف أحد قط إلا غفرت له، فانتبهت فرحا بهذه الرؤيا، فرأيت يحيى بن معاذ فقصصت عليه الرؤيا، فقال: إن صدقت رؤياك فإنك تعيش أربعين يوما. فلما كان يوم أحد وأربعين جاءوا إلى يحيى فقالوا: إن أبا تراب قد مات فقمنا فغدونا.
وبالفعل مات أبو تراب فى طريق الحج إلى بيت الله الحرام. ويقال إنه قد انقطعت به السبل فى الصحراء فنهشته السباع فى سنة خمس وأربعين ومائتين. وبذا كان موته غريبا مثله، وجاء فى الفلاة التى طالما ساح فيها، وهام على وجهه، لا يرى أحدا أمامه إلا ربه، ولا يشعر بأحد داخله إلاه سبحانه. وذكر أبو السراج الطوسى فى «اللمع» على لسان أبى عمران الإصطخرى أنه قال: «رأيت أبا تراب النخشبى (رحمه الله تعالى) فى البادية قائماً ميتاً لا يمسكه شىء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق